إلى متى تستمر المأساةُ في بلادنا؟! ولماذا دارت وتدور كلُّ هذه الحروب والكوارث على أرض الرافدين؟! لماذا يقدمُ العراقيون كلَّ هذه التضحيات دون أن يصلوا إلى النتيجة المرجوة؟! لماذا يبقى شعبُ العراق مجردَ ضحية!! ودائماً يفرضون علينا أن نتكيف مع هذه الويلات والكوارث، بينما تواصلُ الدولُ الكبرى والصغرى مفاوضاتـَها على ما تبقى من أشلاء العراق؟!
لماذا ولماذا.. ولماذا؟!
لقد كثرت الأسئلة بينما الإجابات غائبة!! والأمور تسيرُ من سيئ إلى أسوأ!! فبدلَ أن نطمحَ للحرية والاستقلال والتطور أسوةً بالشعوب الأخرى، صار طموح العراقي الحصول على شربةِ ماءٍ نظيفة وشمعةٍ يواجه بـها ظلامَ هذه الأيام والليالي الدامسة!!
وإذا كانت هذه هي خلاصةُ إنجازاتِ النظام السابق وبطولاتهِ الكاذبة. فإن الأيام تغيرت الآن. وأصبحَ من الواجب علينا أن نجدَ إجاباتٍ شافيةً لكل هذه الأسئلة، كي نعرف لماذا استمرت بلادَنا في ذاتِ الدوامة من جديد.
الحكمة تقول: إن الذين يفشلون في فهم التاريخ يعيدون ذلك التاريخ نفسه!! لأنـهم يعيدون الأخطاء نفسها!!
وكما نعرف جميعاً، فتاريخنا الحديث هو تاريخ الانقلابات والانقلابات المضادة، المؤامرات والمؤامرات المضادة وقد أثبتت التجربة بالملموس بأن جميع تلك الانقلابات والمؤامرات كانت فاشلة، وخاصةً انقلاب 17 – 30 تموز 1968 الذي هو حصيلة سلسلة مستمرة من مؤامرات دفع العراقيون، وبضمنهم المتآمرون أنفسهم، ثمنها غالياً!! وينبغي أن يعي جميع المعنيين أن إنقلاب 17 تموز كان مشروعاً فاشلاً منذ اليوم الأول رغم استمرار حكم الانقلابيين 35 سنة، لكنه كان فاشلاً والدليل هو أنه ترك العراق وسط كل هذا الخراب بينما قادته إما قتلوا أو هم ينتظرون حكم العدالة وعار التاريخ. ولم يستفد من حروب صدام حسين إلا شركات الأسلحة الكبرى التي طورات أجيالاً من الصواريخ والمدافع والطائرات لتزج بالعراق من حرب إلا أخرى ثم لترمي به إلى التهلكة التي هو فيها الآن.
لقد فشلت ثقافة الإنقلابات والإنقلابات المضادة التي كرست لها أجيال من السياسيين والضباط حياتـها كاملةً. ولم يأت منها سوى هذا الخراب الذي نغرق فيه جميعاً في هذه الأيام السود.
وإذا كانت تلك المؤامرات والانقلابات هي التي جاءت بظاهرة صدام حسين. فلماذا يتدافع بعضنا الآن، وراء الكواليس وأمامها لإعادة إنتاج نفس الظاهرة من جديد وبأسم (المقاومة الشريفة) هذه المرة؟! لماذا يتدافع بعضنا لأداء نفس الأدوار بنفس الأساليب تحت إشراف نفس المخرجين وبنفس الماكياج القومي البائس؟! هل سيطرت عليهم ثقافة الفشل مرة واحدة وإلى الأبد؟! وهل هذه التراجيديا العراقية الرهيبة لا تجد حقاً من يقود مسارها سوى هذا النفر من الممثلين الفاشلين؟! يطالبون بجدولة لانسحاب الاحتلال وينسون أن عليهم التخلص أولاً من ثقافة الفشل التي تحتل عقولهم، ومرة يقولون: (نحن ذاهبون لإعلان حكومة مؤقتة) وحين يقابلون المستشار يجدون أوراقه فارغة وأسماءهم ممحوة!! فلا نسمع منهم سوى اللعثمة والرطانات!! لعثمة ورطانات ليست مؤقتة بل دائمة.
ممثلون فاشلون يريدون تأدية نفس الأدوار تحت إشراف نفس المخرج وبنفس الثقافة الفاشلة، يرددون نفس المفردات البائسة المفتعلة حول (العراق العظيم) و(ستة آلاف سنة من الحضارة) مع ستة آلاف طن جديدة من الباطل والأكاذيب!! وهذه هي العدّة المطلوبة لتتهيأ نفس الضمائر والأيادي الميتة لتذبح شباب العراق بنفس الخناجر الصدئة!!
هل تستطيع الثقافة العراقية أن تجيب على السؤال التالي: لماذا يستمر على مسرح العراق، هذا العرض المأساوي، لكل هذه السنين والعقود المتتالية، ولا توجد حقيقة فيه سوى الضحايا وصراخهم، بينما (أبطاله) دائماً ممثلون كاذبون ومزيفون؟!
أبطال كاذبون ومزيفون سيلقون بقناع (القومية) إلى المزبلة لأن رائحة عرق الممثل الفاشل صدام حسين تراكمت عليه ولم يعد يطاق. لذلك كان المخرج (ذكياً) بما فيه الكفاية ليهيأ لهم أقنعة جديدة، أقنعة (اسلامية)!! لكنهم لن يُسمعونا سوى تلك المفردات البائسة المفتعلة نفسها وسيرددونـها حتماً، وربما بصوت أكثر علواً: (العراق العظيم) و(ستة آلاف سنة من الحضارة)!! والحقيقة الواقعة هي أن العراق بضاعة ومئات السماسرة يتنافسون على العمولة الرخيصة وسط صراخ الضحايا ودمائهم دون حياء من الله أو البشر!!
والغريب في هذا العرض، أن (الأبطال) الجدد، اعتمدوا على نفس الممثلين الثانويين، نفس الإعلاميين الذين قدموا صدام حسين بصفته (بطلاً قومياً)، وبعضهم يرطن بالديمقراطية والليبرالية، يعقدون مؤتمرات باسم (المقاومة الشريفة) و(عهود الشرف) ليقف على رأسهم من باع واغتنى بدماء العراقيين الشرفاء!!
الشرف!! نعم. هذا الكلمة يجب أن نتوقف عندها ونتأمل مصيرها، ليس من أجل قيمتها الإنسانية بذاتـها فقط، بل وأيضاً في كيفية وتوقيت استعمالها!! فالشرف ككلمة لا يذكرها الإنسان الشريف ولا يرددها، لأنه يعيشها. بينما يظل يرددها الناقص لأنـها تمثل العقدة التي تقض مضجعه. يظل الناقص يرددها وهو يعرف بأن لا أحد يصدقه، فيندفع بكل ما يستطيع إلى (السلطة)، سلطة القتل والموت، ف(السلطة) وحدها هي التي تجعل الزنيم شريفاً والجبان بطلاً والمستبد الرخيص ديمقراطياً ومتحضراً أو عبد الله المؤمن حسب الحاجة والطلب!!
وكل هذا يعني أن على الإنسان الشريف أن ينتبه إلى ما يهدد شرفه وسط هذه المعمعة، فالشرف هنا ليس مسألة شخصية لكي يأنف ويبتعد. بل أن الشرف هنا يعني: العراق. وبدون هذا المعنى سيبقى العراقي دون حماية وستظل حقوقه رهناً بإشارة الممثلين الفاشلين والمخرج المحلي أو الأجنبي ومن خلفه وأمامه حملة الخناجر الصدئة!!
على العراقي أن يبدأ في كل مرة من جديد كي لا يخسر العراق والمستقبل، فيظل طموحه يتراوح بين شربة ماء يغص بـها، وشمعة بائسة لا يرى من خلالها ما يدور حوله، أو وقفة قاتلة على أبواب السفارات لطلب اللجوء!! عندها سيصبح الشرف مجرد جرح يحمله العراقي في الحل والترحال. جرح لا يطيب لأنه في صميم القلب.
العراق هو بيتنا الوحيد ومن العار أن نتركه للناقصين والممثلين الفاشلين وحملة الخناجر الصدئة، هؤلاء الغارقون في المؤامرات حتى أعمت الكواليس ضمائرهم. لقد نسوا بأنـهم يكسبون السلطة أحياناً ويفقدون العراق دائماً!! ولن يكسبوا أكثر مما كسب نوري السعيد وصدام حسين، ولكن ماذا كانت النتيجة؟!
أما نحن العراقيين، سواء كنا داخل جحيم العراق أم خارج لعبة المستشار والممثلين الفاشلين. فعلينا أن نعود إلى أنفسنا كي نكون حاضرين. وعلينا أن ننسى المراثي وثقافة المراثي، فهي توجع القلب وتوجع الشريف وتوجع العراق...
العراق: هذا الخراب الذي يتنافس عليه اللصوص، هو بيتنا الوحيد وليس لنا بيت سواه. هو شرفنا الوحيد وليس لنا شرف سواه.