كنتُ قد كتبتُ مقالاً أشرت فيه إلى أن ما يُسمى زوراً وبهتاناً وتجنياً (السلفية الجهادية) يجب أن تصنّف عالمياً مثلما صنفَ الأوربيون، و(الألمان) منهم خاصة، (النازية)؛ على اعتبار أن (الفكرة) نفسها، والدعوة إليها، والتحريض على اعتناقها، هي تماماً (نسف) للأمن والسلم الدوليين، فضلاً عن أنها بكل المقاييس (إثارة للفتنة) حسب المصطلح الشرعي المعروف. والفرقتان ـ في تقديري ـ تَعبان من نفس المعين: الحقد والكراهية والقتل و الدماء؛ وإن اختلفت الملة فالنتيجة واحدة.
وقد تلقيت ردود فعل كثيرة من بعض القراء على ذلك المقال، اعتبر بعضهم أن مقارنة هؤلاء الضُلال (بالنازيين) هو تجنياً على (فئة) من المسلمين، ضلّت الطريق السوي، وكان الواجب عليّ أن أتعامل معهم باللين، و الموعظة الحسنة؛ لا (بالإقصاء) والغلظة والشدة، التي ـ كما قال أحدهم ـ ستزيدُ الطين بلة، وتعمق الفجوة بيننا وبينهم.
هذا بالمختصر المفيد خلاصة كل من اعترضوا على المقال، سواء ممن شرفوني بالمكاتبة، أو المهاتفة، أو مباشرة بالمشافهة.
سادتي:
أولا:
أنا ممن يعتقدون اعتقاداً (جازماً) أن علماءنا وكذلك طلبة العلم إضافة إلى الدعاة هم من يتحملون القسط الأكبر من مسؤولية مكافحة (الإرهاب). لاسيما وأن (الإرهاب) اليوم يمتطي مطية الدين، ويتذرع بقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لذلك فإن من (الواجب) أن يقوم العلماء، وكل من ينتمي إلى الدعوة، قبلَ غيرهم، بمسؤولياتهم في الذب عن الدين أولاً، وعن الآمنين من مسلمين وغيرهم ثانيا، بعدما لطخه هؤلاء بالدماء، وشوهوا سمعته بالعنف و القتل والتفجير و التدمير. والسؤال الذي لا بد من طرحه بكل جرأة، لأن الأمر لا يتحمل أي مجاملة : هل أدى علماؤنا المعاصرون (مهامهم) مثلما أدى أسلافهم مهامهم عندما تصدوا للخوارج؟. الجواب بكل مباشرة: لا، للأسف !.
وللتوضيح أكثر، هَب أن (الحكومة) قررت السماح للمرأة بقيادة السيارة، دون أن تلزمها ـ مثلاً ـ بالحجاب، ماذا ستكون (ردة) فعل هؤلاء العلماء وطلبة العلم؟... كم من الوفود ستأتي إلى الرياض محتجة من كل المناطق، وكم من (البيانات) ستوقع، وكم من التهم ستكال، وكم من (الخطب) المجلجلة سيصدحُ بها كثيرٌ من أئمة الجوامع؟، وحَدّث عن هذه (الاحتمالات) ولا حرج... والسؤال: هل قيادة المرأة للسيارة، وحتى عدم ارتداء الحجاب، أشد (حرمة) عند الله ـ على افتراض حرمتها ـ ممّا يُمارسه هؤلاء (المرضى) من قتل وذبح وتدمير وانتهكاك للحرمات؟. فلماذا بالله عليكم نرى كل هذا اللين والتساهل والجنوح إلى (الموعظة الحسنة) عندما يكون الأمر متعلقاً بمخاطبة (الإرهابيين) ووعظهم، بينما نجد (الشدة) و (الغلظة) في أقسى صورها عندما يتعلق الأمر بقضايا المرأة مثلاً؟. أيهما ـ بالله عليكم ـ أولى (بالإنكار)، قيادة المرأة للسيارة، أم قتل النفس التي حرمَ الله إلا بالحق، وهتك الحرمات، وهدم البيوت على الآمنين؟. ولماذا ـ مثلاً ـ لم نسمع أن هيئة الأمر بالمعروف قد (قبضت) على (إرهابي) واحد، أو دلّت على وكر (للإرهابيين)، بينما أن جهودها لا تكاد تحصى في مكافحة الممنوعات والمنكرات الأدنى بشتى أنواعها؟؛ فلماذا تظلُ الهيئة (غائبة) أو (مغيبة) عن مواجهة (منكر) الإرهاب الذي هو أخطر على المجتمع من المخدرات مثلاً؟... أليس في ذلك ما يُثير التساؤل؟.

ثانياً:
في عام 1945 م، وبُعيد استسلام ( ألمانيا) النازية، عُقد مؤتمرٌ في مدينة (بوتسدام) الألمانية. وكان من أهم بنوده (القضاء على النازية). ويرجع إلى هذا المؤتمر الفضل في اجتثاث الثقافة النازية، وتخليص أوربا منها. هذا المؤتمر على وجه التحديد كان بمثابة الجذوة التي أشعلت الضمير العالمي ضد (النازية) بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكرست قبحيتها، وأحالتها إلى ما يشبه (الجريمة)، ليس على المستوى القانوني والسياسي فحسب، وإنما على المستوى الثقافي والفكري، و(الإعلامي) على وجه الخصوص. ففي أوربا اليوم يكفي أن يُـتهمَ سياسي بأنه (نازي) النزعة، أو أنه يُحرض على النازية، ليصبح و(قاطع الطريق) على قدم المساواة. وقد وقعَت على هذه الاتفاقية بريطانيا و الاتحاد السوفييتي و أمريكا و كذلك الصين، وهم الأقطاب الأهم دولياً آنذاك. فلماذا لا نستفيد من هذه التجربة، التي كان لها الأثر الأول في اجتثاث (النازية) وتخليص العالم منها؟.
ولتقريب القضية أكثر، تصور أن بيانات (السلفية الجهادية) سواء تلك التي تصدر من أساطين وحركيي هذه الفئة، أو تلك التي تدعو علناً إلى القتل والتفجير وذبح الآمنين، بحجة (الجهاد)، تم التعامل معها (كثقافة) كما تعامل الغربُ مع (النازية)، هل ستستطيع، أو قل : هل ستتجرأ قناة كقناة (الجزيرة) مثلاً على الترويج لهذا الفكر، والتعامل مع بيانات أساطينها، والمبشرين بها، على اعتبار أنها من باب (الرأي و الرأي الآخر) و (حرية التعبير)؟... وكلنا يعرف أن هذه القناة على وجه التحديد كان لها (الأثر) الإعلامي الأكبر في صناعة وترويج هذا (التوجه) الخطير، وتكريسه، وفتح المجال واسعاً له من أجل تمرير (بطولاته) وبياناته وعملياته المصوره مثلما يحصلُ في العراق اليوم، حتى أصبحت (منبره) الأول؟.
لذا؛ فإنني مازلت عند رأيي أن من أولى واجبات المجتمع الدولي اليوم أن يُعيدَ تجربته مع (النازية)، وأن يتعامل مع هذه الثقافة الهمجية الخطيرة تماماً مثلما تعامل مع الثقافة النازية. وإلا فإن القادم من الأيام سيحملُ الكثيرُ مما (سيفجرُ) ما هو أسوأ من تبعات الحرب العالمية الثانية على الإنسانية جمعاء.