ينبغي أن لا تصدق الأمريكان ولا تكذبـهم، لأنك في الحالتين ستكون على خطأ!! لأن الأمريكان ينظرون لمن يصدقهم بصفته مغفلاً، ولمن يكذبـهم بصفته أحـمقَ. وربما هذا ما كان يقصده هنري كيسنجر عندما قال أيام الحرب الباردة : ( أمريكا صداقتها ورطة وعداوتـها كارثة )!! إنها معادلة صعبة حقاً!!
أمريكا لا يحكمها حزب أيديولوجي أو ديكتاتور أو بطل قومي كي يحتاج إلى التمييز بين من يصدقه أو يكذبه، ليقرب الأول ويـبعد أو يعاقب الثاني.
من يمارس السلطة في الولايات المتحدة لا يملك الدولة ويعرف أنه محكوم بقانون وأن وجوده في البيت الأبيض مؤقت ومحدد بسنوات ولايته. لذلك فهو لا يخشى ضياع سلطته أو إنقلابها ضده حين يفقد منصبه كما يحصل في دولة الشخص الواحد أو الحزب الواحد. لا يأتي الحاكم في الولايات المتحدة من عشيرة أو طائفة معينة كي يعرف من معه أو من ضده. لذلك لا توجد في الولايات المتحدة أجهزة أمنية اختصاصها التعرف على من هو الموالي ل( الحاكم ) ومن هو الرافض.
لقد طور النظام الديمقراطي مفهوم الدولة ذاته فأصبحت دولة مؤسسات محكومة بأنظمة مترابطة تخضع جميعاً لسلطة القانون، لذلك أصبحت الدولة وقوانينها أكبر من سلطة الحكومة، في حين لا تعطي القوانين أو مفهوم المواطنة ذاته مبرراً لشخص أو حزب لكي يهدد أمن الدولة أو يتآمر عليها، وهو إن حاول فلن ينجح لأن طبيعة دولة المؤسسات في النظام الديمقراطي لا تسمح بذلك..
الحاكم إذن هو المؤسسة وليس الشخص، والشخص يأتي ويذهب بصفته رمزاً وممثلاً للحزب الفائز بالدورة الانتخابية. والمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة موزعة إلى عدة هيئات تحاور بعضها البعض الآخر، ويحد بعضها من سلطة البعض الآخر كي يستمر التوازن الداخلي للدولة ويستمر توازنها مع المجتمع، دون أن يدعي أحد بأن العدالة تحققت بشكل مطلق.
وإذا كان البث الاعلامي والفكري ل( إيديلوجيا الديمقراطية ) إذا صح التعبير، ملازماً للإدارتين الجمهورية والديمقراطية بنفس الوتيرة، فحقيقة هذا الأمر تعتمد على الطرف الآخر الذي يستلم الرسالة وما إذا كان جاداً في خياره الديمقراطي أم لا.
المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة اتسعت مع اتساع مصالحها العالمية، وهي في حالة تنافس على أهداف واضحة ومحددة ولكن مع منافسين متغيرين لناحيتي الهوية والقدرة، لذلك فأن الولايات المتحدة لا تريد من يصدقها أو يكذبـها، إنما المطلوب هو أن يفهم الآخر: ماذا تريد منه الولايات المتحدة وماذا يريد هو منها، ومدى استعداد الآخر على تقبل هذا الموقف أو ذاك على ضوء قوته وحضوره في المعادلة الدولية لا على هويته القومية أو الدينية أو المذهبية ولا على أساس عاطفته السلبية أو الايجابية إزاء أمريكا.
بـهذا المعنى كان الصراع يدور مع الاتحاد السوفياتي وهو يدور الآن بأشكال مختلفة مع الصين ومع اليابان ومع أوربا الغربية على المصالح وخاصة في بلدان العالم الثالث موضوع الصراع مع مراكز النفوذ هذه.
وهنا يكمن معنى ( الواقعية ) في السياسية. الذي ينبغي على العراقيين أن يفهموه، وبالطريقة الأمريكية ذاتـها، أي أن يستفيدوا من خبرتهم وخبرة الآخرين، وأن تكون لديهم مفاهيم تخدم تلك الخبرة وتطورها، وأن يكون لعامل الزمن قيمة ومعنى، فلا يمكن للمرء أن يدعي بأن لديه برنامج عمل وهو يبدد الشهور والسنوات على خلافات لا مبرر لها لأنها لم تنتج في الماضي إلا الخراب والفوضى، ثم يتساءل بحيرة واستغراب : لماذا تحدث كل هذه الأخطاء؟! ولماذا نبقى متخلفين في عالم يتطور من حولنا؟! ولماذا نبقى متناحرين ونحن في حالة احتلال والقوى الإقليمية تخترق العراق وتعيث به فساداً؟!
الكل يطرح هذه الأسئلة ولكن لا أحد يمتلك جواباً شافياً عليها، لماذا؟! لأن لا أحد يتساءل : لماذا نحن متشبثين بنفس مفاهيم الخمسينات والستينات السياسية التي قادت العراق من كارثة إلا كارثة؟!! ولا نزال نسمي ذلك بتراث الحركة الوطنية، ونمجد ذات الرموز وذات الشعارات ونقدسها وتستمر خصوماتنا بسببها، وكأن الزمن السياسي والثقافي تجمد عند نقطة واحدة!!
كل هذه الأوهام والأخطاء المنهجية هي التي تجعلنا نستخدم كلمات الصدق والكذب ومرادفاتها العاطفية الأخرى في عالم السياسة وفي قضايا تقرر مصير الشعوب والدول، حيث يجب أن تكون لديك رؤية سياسية وحقوقية واضحة لضمان مصالح تيارات المجتمع المختلفة وسيادة الوطن التي تعني مصالح الناس وحاجاتهم قبل الشعارات والعواطف الصادقة والكاذبة.
وأن تعتمد على مبدأ المشاركة أي أنك بصدد تنفيذ خطط إعادة الإعمار وأولها إعادة بناء الطبقة الوسطى العراقية أي دورة المال والاقتصاد التي تميز الدولة وترسخ سيادة المجتمع على مصالحه ومستقبل أجياله من خلال نهضة صناعية زراعية تحقق الاكتفاء الذاتي للمجتمع حيث يكمن أصل السيادة وتحقيق استقلالية القرار السياسي في العراق ..
الأمر الذي يعني أن يكون لديك أهداف محددة وبرنامج عمل لتحقيق تلك الأهداف. أن يكون لديك ثوابت ومتغيرات متفق عليها من قبل الأحزاب والفعاليات السياسية والثقافة الأساسية.
لا تصدوا الأمريكان ولا تكذبوهم، لا تصدقوا الأمريكان حين يقولون نريد أن نبني ديمقراطية في العراق ولا تكذبوهم، إنهم يقولون ذلك لأن مصالحهم تقتضي ذلك وهم يعرفون أن العراقيين إذا أرادوا الديمقراطية سيـبنونها ويدفعون ثمنها وإذا فشلوا فهم من يتحمل المسؤولية. فلا معنى سياسياً هنا لتصديق الأمريكان أو تكذيبهم. أليس كذلك؟!
- آخر تحديث :
التعليقات