للدولة العراقية؟ (2)

هل تريد الأحزاب والجهات السياسية الدينية الشيعية تكرار تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية ؟ وهل الظروف العراقية الداخلية والدولية هي نفسها التي كانت عند قيام الثورة الإيرانية؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة علينا أن نورد تصريحا أدلى به مؤخرا سماحة السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وقال فيه "أن الشعب العراقي هو الذي أسقط نظام صدام حسين".
ما الذي كان يعنيه السيد عبد العزيز الحكيم، عندما أطلق تصريحه المذكور، علما بأن أي فرد في العالم يعرف جيدا أن الولايات المتحدة، وليست أي جهة أخرى، هي التي أطاحت بنظام صدام؟

ما هي زبدة الزبدة في تصريح الحكيم؟
نعتقد أن ما أراد أن يقوله الحكيم هو، أن القوى العراقية السياسية الشيعية هي التي أسقطت صدام ونظامه، وأن هذه القوى ليست بدون قيادات أو زعامات عراقية، وأن هذه الزعامات مفوضة من قبل جميع العراقيين الشيعة، وليس الإسلاميين الشيعة فقط، وبالتالي فأن هذه القيادات السياسية الشيعية تملك حق التحدث باسم جميع العراقيين الشيعة، وقادرة على حسم الأمور كما تقرر هي، تماما مثل ما حدث بعد الثورة الإيرانية. فهل هذا صحيح؟
إن من يستعيد أحداث الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الشاه، يلاحظ أن الشارع الإيراني عشية الثورة كان خليطا من رؤى وأفكار وتيارات سياسية مختلفة، بل متناقضة. وعندما كان الأمام الخميني يحرض، من منفاه العراقي، أولا، والفرنسي، لاحقا، الإيرانيين فأنه كان يجد استجابة ليس من القوى الإسلامية، فحسب، وإنما من قوى سياسية علمانية، ليبرالية، ماركسية، ديمقراطية، تتعارض رؤاها السياسية والأيدلوجية مع الفكر الإسلامي. ما كان يوحد جميع تلك الأطراف هو، كراهيتها ورفضها لحكم الشاه. وكانت كل واحدة من تلك القوى العلمانية، وهي قوى مختلفة، تجد في خطاب الأمام الخميني، ما تستطيع تفسيره لصالح أطروحتها هي، ولصالح مشروعها السياسي. كانت هناك الجبهة الوطنية وحزب تودة وفدائيي خلق ومجاهدي خلق، وفئات واسعة من نساء ورجال الطبقة الوسطى من ذوي الأفكار الليبرالية. ومع هولاء كانت هناك الحركة العمالية التي نفذت إضراب النفط عام 1978، والذي يعتبره البعض احد العوامل التي عجلت في سقوط الشاه.
وعندما كان الأمام الخميني ينظر إلى الجموع الحاشدة التي كانت في استقباله لحظة عودته من منفاه، فأنه كان على يقين أن تلك الجموع تمثل تيارات سياسية مختلفة، لا تتطابق مع أرائه وفلسفته في الحكم. وكان أمامه ومعه رجال الدين الذين يشطارونه أرائه، احتمالان: أما أشراك تلك القوى السياسية في السلطة وإقامة نظام ديمقراطي، أو الإقدام على إقصائها والتفرد بالسلطة. ونعرف أن الاحتمال الثاني هو الذي حدث لاحقا، وتوج بإعلان نظام ولاية الفقيه الحالي. وقد تم التمهيد لذلك بأسلمة كاملة للخطاب السياسي الخميني وغياب مفردة الديمقراطية. ثم بدأت أسلمة المجتمع وقيام "الثورة الثقافية". و ترافق ذلك مع تشكيل الباسدران في شهر مايس 1979، والمحاكم الثورية، وحرق بعض دور السينما ومهاجمة محلات بيع الخمور من قبل "الجماهير"، والتشديد على ارتداء الحجاب الإسلامي، وإغلاق جامعة طهران، لتطهيرها من العناصر "الفاسدة".
وعلى أي حال، فأن الثورة الإسلامية في إيران كانت من صنع الإيرانيين وحدهم، دون مساعدة أجنبية من أي جهة. وحتى عندما كان الأمام الخميني منفيا خارج إيران، فأنه كان حاضرا، بخطاباته وتوجيهاته، في شوارع المدن الإيرانية التي تحولت، بفضل توجيهاته، إلى غابات من البشر، تنادي بإسقاط الشاه ونظام حكمه.

عراق اليوم وإيران الأمس
ألان، لو نظرنا لما حدث ويحدث في العراق، لوجدنا أن كثيرا من أجزاء السيناريو الإيراني قد أعيد تكرارها من قبل القوى السياسية الشيعية. فعندما كانت هذه القوى تعمل سوية مع أطراف المعارضة، قبل سقوط صدام، كانت تضع الخيار الديمقراطي في مقدمة أهدافها، كبديل عن نظام صدام. وقد كان المبرر الوحيد لنشاط المعارضة العراقية ضد صدام ونظامه، بما في ذلك، بالطبع، القوى السياسية الدينية الشيعية، هو، أن صدام حاكم ديكتاتوري، يعتمد الديكتاتورية كفلسفة في الحياة، وكمنهج للحكم. وعندما يتم العمل ضد الديكتاتورية، فمن أجل أيجاد بديل لها. وما من بديل عن الديكتاتورية سوى الديمقراطية.
وقد ظلت القوى السياسية الدينية الشيعية تلح على الخيار الديمقراطي حتى عشية الانتخابات البرلمانية. ولكن هذه القوى تعاملت مع الانتخابات، ليست باعتبارها خطوة أولى باتجاه أقامة نظام ديمقراطي متكامل، وإنما كوسيلة حملتها إلى السلطة، وحصلت بفضلها على شرعية دستورية وجماهيرية، كانت مفتقدة. فقد رأينا أن الديمقراطية اختفت من خطاب هذه القوى. وبدلا من الممارسات الديمقراطية، بدأت هذه القوى تطرح أراء ومواقف وحلول طائفية، يمكن تلخيصها بجملة واحدة هي "مظلومية الشيعة، أو رفع الظلم عن العراقيين الشيعة".
ولكن، أي مظلومية، وأي شيعة، ووفق أي نظام سياسي ترفع هذه المظلومية؟
لو تمعنا في الفترة التي أعقبت سقوط نظام صدام وحتى الآن، فأننا لم نجد أن القوى السياسية الدينية الشيعية كانت حريصة على إشاعة الديمقراطية، كفلسفة للحياة وكمنهج للحكم. فنحن نعرف أن الديمقراطية مثلث له ثلاثة أضلاع، أولها الانتخابات الديمقراطية، وثانيها العملية الديمقراطية، وثالثها الثقافة الديمقراطية.
وفي عراق ما بعد صدام حسين، فأن الضلع الأول من المثلث الديمقراطي" الانتخابات" تحقق بشكل مدهش. فقد كانت الانتخابات ديمقراطية بكل المقاييس، وجرت في ظل دولة القانون والمؤسسات. أي ، أنها جرت دون تدخل الدولة، وفي ظل حياد أجهزة الدولة الحكومية، كالجيش والشرطة، وبدون عمليات تخويف. ولكن، ما قلل/ لكنه لم يلغ/ من أهمية تلك الانتخابات هو، أنها جرت، في الغالب الأعم، ليس وفقا لقناعات الناخب، كمواطن فرد، ولكن وفق "قناعات" جماعية. أي أن الكتل البشرية، وليس الأفراد، هي التي صوتت: شيعة، أكراد، تركمان، مسيحيون... الخ.
والأمر الآخر الذي "جرح" ديمقراطية الانتخابات هو، عدم مشاركة جميع العراقيين فيها. أما الأمر الثالث الذي "عكر" ديمقراطية الانتخابات هو، استعانة قائمة الإتلاف بقوة المرجعية الشيعية، عن طريق رفع صورة السيد السيستاني. فقد كانت استعانة قائمة الإتلاف بالمرجعية، تشبه أن يدخل ملاكم بقفازات حديدية، ليتبارى مع خصم له يرتدي قفازات جلدية.
وإذا كانت طريقة التصويت بهذه الصورة الجماعية، أمرا متوقعا، وربما طبيعيا في ظرف الاستحقاقات الكبرى التي يواجهها العراقيون حاليا، فأن من غير الطبيعي أن لا تستمر القوى/ وحديثنا، هنا، دائما عن القوى السياسية الدينية الشيعية/ في ممارسة اللعبة الديمقراطية حتى النهاية.
فقد رأينا، قبل الانتخابات وبعدها، كيف أن القوى السياسية الدينية الشيعية بذلت وما تزال تبذل محاولات مستمية، بالترغيب وبالترهيب، للتفرد بالشارع الشيعي، وفرض سيطرة هذه القوى، ليس باتجاه تكريس وتثبيت "الأمر الواقع الديمقراطي"، وتحويله إلى معطى استراتيجي، ولكن باتجاه الالتفاف على هذا الواقع، من أجل إقامة نظام سياسي ديني، على غرار ما حدث في إيران بعد انتصار الثورة.
لكن، هل أن هذه الرغبة الذاتية تتلاءم مع الظروف الموضوعية الداخلية والدولية، أم تصطدم معها؟

يتبع

الحلقة الأولى