بعثي حتي التخرج

عملت في عام 1979م مدرساً في كلية التربية بجامعة طرابلس في ليبيا، ثم تركتها بعد صعود ماعُرف باللجان الشعبية، وكان الخيار المتاح هو العمل مع هذه اللجان، والتصفيق للقائد العبقري الملازم القذافي أو مغادرة الجماهيرية العربية الشعبية الديمقراطية العظمى، وقد غادرتها مع العديد من المدرسين الفلسطينيين والمصريين، خاصة كان القائد العبقري القذافي آنذاك قد بدأ صرعة (الزحف ) على المكاتب والمؤسسات لخلع مسؤوليها وتنصيب نصابين محلهم يصفقون ويتغنون بإنجازات الملازم القذافي، وكان قد بدأ التلميح لبعض الأسماء الفلسطينية المعروفة بأنه كم سيكون الملازم (أصرّ على تسمية ملازم لأنها رتبته عندما قاد الإنقلاب على الملك إدريس السنوسي، ثم رقّى نفسه لرتبة عقيد ) القذافي مسرورا لو بادرت بعض الشخصيات الفلسطينية لتشكيل لجنة شعبية، تقوم بالزحف على مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، لخلع مديره آنذاك (أبو طارق – الشرفا )، وتنصيب أحد الفلسطينيين من المعجبين بالملازم، لذلك غادر الجماهيرية العظمى العديد من الفلسطينيين ممن عليهم العين أن يزحفوا على مكتب منظمة التحرير. غادرت إلى العراق وبدعم من الكاتب الفلسطيني المعروف ناجي علوش (أبو إبراهيم )، تعاقدت مع وزارة التعليم العالي العراقية، حيث خيّرتني للعمل في جامعة البصرة أم جامعة السليمانية، فاخترت جامعة البصرة لقربها من الكويت، شوقاً إلي ثماني سنوات قضيتها أعمل في صحافة الكويت ومدارسها، مما يسمح لي بالسفر والزيارة متي ما أريد، وما أن وصلت إلي مدينة البصرة، وبدأت العمل مدرساً في كلية الأداب، في أواخر عام 1979م، حتي أدركت أنه انطبق عليّ المثل القائل (كالمستجير من الرمضاء بالنار)، فقد هربت من رمضاء القذافي إلي نار صدام.

لفت إنتباهي أن برنامجي الجامعي، يخلو من مادة إسمها (الثقافة القومية) موجودة في برنامج بعض الزملاء من المدرسين العراقيين، فغضبت خاصة أنني كنت من متقاعدي (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين )، فسألت رئيس قسم اللغة العربية الدكتور عبدالجليل....، لماذا يخلو برنامجي التدريسي من مادة الثقافة القومية؟ تفحص الدكتور عبدالجليل ملامح وجهي، ربما ليعرف مدي جدية هذا السؤال، وعلت وجهه إبتسامة خجولة، وأجاب.. عيني... هذه المادة خاصة بتاريخ حزب البعث ونضالاتة المجيدة، ومن يدرسها للطلاب والطالبات، يجب أن يكون (بعثياً) وله درجة حزبية متقدمة، ويكون موافقاً عليه من قيادة الحزب. أيام قليلة، وبدأ النظام الصدّامي حربه ضد إيران، وكان قد مهد لذلك بتعبئة إعلامية واسعة، حول تهديدات إيران للأراضي العراقية، ومحاولات تفجير وإغتيال تقوم بها عناصر إيرانية داخل العراق، كما تم ترحيل وإبعاد عشرات الآلاف من العراقيين إلي إيران، بحجة أنهم ذوأصول إيرانية، ولن أنسي ما حييت ذلك المشهد المروع. كنت في زيارة لقيادة إحدي التنظيمات الموالية للمخابرات الصدّامية، في مكتبها الرئيسي في منطقة المسبح في بغداد، وفجأة سمعنا جلبة وصراخاً في المنزل المجاور، حيث كانت سيارة للأمن العسكري، تجبر عائلة بكاملها علي الصعود فيها تحت تهديد السلاح، لحملهم ورميهم علي الحدود الإيرانية مثل آلاف سبقوهم. تم إصعاد العائلة بكاملها بالقوة.. الأب والأم، وخمسة أطفال، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والحادية عشرة. همّ السائق بالإنطلاق، فصرخ الأب : عيني.. هذا الطفل إبن الجيران.. حرام عليكم. أنا وعائلتي تريدون ترحيلنا.. بس هذا ولد الجيران كان يلعب مع أطفالي.. حرام عليكم. لم يسمع السائق والجنود معه هذا الصراخ وهذه الشكوي، وإنطلقت السيارة نحو الحدود الإيرانية بالعائلة وإبن الجيران.
بعد إسبوعين من بدء الحرب، أصبحت مدينة البصرة، خط الدفاع الأول، حيث كانت مسرحاً أساسياً لعمليات الحرب الأولي، فأغلقت الجامعة أبوابها، وبدأ الناس يقضون ساعات طويلة في الملاجئ والطوابق الأرضية، كما بدأ تقنين توزيع المحروقات وبعض المواد التموينية.أشاع الحزب ومخابراته أن الحرب لن تتعدي عدة أسابيع، النصر خلالها حتماً مؤكداً علي (الفرس المجوس ) الإسم الذي بدأ إعلام صدام إطلاقه علي الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفجأة أغرقت أجهزة الحزب الأسواق بكميات ضخمة من المواد الغذائية لإيهام المواطنين أن الحرب لن تؤثر علي حياتهم اليومية. أمام أحد مراكز البيع، توقفت في الطابور مع زميل من أعضاء هيئة التدريس في جامعة البصرة، شيوعي معروف، أجبرته السلطات الأمنية علي توقيع إستمارة الإنتماء لحزب البعث، كي توافق السلطات الجامعية علي تعيينه مدرساً، وهكذا أصبحت حالته وحالة المئات غيره فقط (عضوية) شكلية، الهدف منها تقييد حركته وأقواله، فإن إرتكب أية مخالفة أو تجاوز، يحاكم عندئذ كعضو في حزب البعث، وهذا يعني الهلاك والموت. كنت مع هذا الزميل الشيوعي حسب القناعات، والبعثي حسب الإستمارة، إشترينا كمية من الدجاج، عندما إنسحبنا من الطابور قال لي.. عيني.. والله الدجاج أكثر من المطر في صيف البصرة.. بس لو إخوانا في الحزب يرسلوه للجبهة، ثم يبيعونه مشوياً. وتلفت كلانا لا شعورياً، للتأكد من أن أحداً لم يسمعنا فقلت له... عيني أشكر الله أن الدجاج الذي في أيدينا، مذبوح ومجمد، وإلا ما كنت تضمن أن لا تكون إحدي الدجاجات قد وقعت علي إستمارة الإنتماء لحزب البعث وتبلّغ عنّا.

جاءتني يوماً إحدي طالباتي الفلسطينيات، ورجتني أن أساعدها في الحصول علي غرفة في المدينة الجامعية، لأن الغرف مخصصة فقط للطلاب والطالبات البعثيات. نفيت لها ذلك بشدة، لأن أحد طلابي الأثيوبيين في مادة (اللغة العربية لغير ذوي الأختصاص) يسكن في المدينة الجامعية، وهذه الحالة تؤكد أن الغرف ليست مخصصة للبعثيين والبعثيات. في اليوم التالي سألت الطالب الأثيوبي.. كيف حصلت علي غرفتك في المدينة الجامعية؟ ضحك الطالب وقال.. دكتور.. أنا بعصي.. يقصد بعثي، فضحكت بدوري، لكنه ضحك كالبكاء، ففي عُرف إنتهازيي الحزب ولصوصه، تساوت القوميتان العربية والحبشية. كانت عضوية الحزب عبر توقيع الإستمارة، مدخلا للعديد من الإمتيازات، وكان الطلبة الفلسطينيون والأردنيون أكثر الجنسيات تعرضاً لإبتزاز مسؤولي الحزب والأمن في الجامعة، فالسكن الجامعي، والقبول الجامعي، والكتاب المجاني، والمنح الجامعية كلها لأعضاء الحزب فقط. فكيف يواجهه الطلبة الفلسطينيون والأردنيون هذا الواقع، وهم أكثر الجنسيات حاجة لهذه الخدمات المجانية!.
كان خيارهم الوحيد التوقيع علي إستمارة الإنتساب للحزب، لكن الخوف من مساءلتهم والتحقيق معهم عند عودتهم إلي الأردن، كان هاجساً حقيقياً خاصة أن العلاقات العراقية ـ الأردنية، كانت قد تدهورت كثيراً في عام 1977م، عندما أعدمت السلطات العراقية طالباً أردنياً، تحولت جنازته في عمّان إلي مظاهرة حاشدة ضد النظام العراقي وحزب البعث. سألت أحد مسؤولي إتحاد الطلبة الأردنيين، وهو طبيب مشهور الآن في مدينة إربد الأردنية.. كيف تواجهون هذا الواقع في الجامعات العراقية؟!.
أجابني.. هذه الأمور لم تعد مشكلة، فالسلطات الأمنية الأردنية تتفهم واقعنا، وتعرف أن أغلبنا فور وصوله العراق، يرفع شعار (بعثي حتي التخرج) أي التوقيع علي استمارة عضوية الحزب حتي التخرج من الجامعة فقط!.

في الأسبوع الرابع من الحرب، أدرك العراقيون أنها ليست حرب أسابيع كما أشاع الحزب ومخبروه، فأصبح الهرب يأخذ طابع المد والجزر. كما بدأت أعداد القتلي والجرحي في إزدياد مستمر... في هذه الأجواء، صدر مرسوم من وزارة التعليم العالي، سُمح بموجبه لأعضاء هيئات التدريس من غير العراقيين في كافة الجامعات العراقية، بمغادرة العراق في أجازة مدفوعة الراتب، والعودة إلي مراكز عملهم، بعد إنتهاء الحرب، وقد غادر بسرعة غالبية أعضاء هيئات التدريس العربية والأجنبية. لكنني كفلسطيني وجدت نفسي في موقف حرج حساس.. كيف أترك زملائي وطلابي وطالباتي، وأنا وهم قبل الحرب، كانت فلسطين همنا الأول، وكيف أترك زملائي العراقيين وقت الشدّة؟ حسمت أمري،وقررت عدم السفر. في بداية الشهر الثالث، تراجعت المعارك داخل الحدود الإيرانية، وأصبحت الحياة في مدينة البصرة شبه عادية، فانتظمت الدراسة في كليات الجامعة من جديد.. كان موقفي في الجامعة حرجاً للغاية.. فأنا فلسطيني، وغير بعثي (الحمد لله)، وكان موقف منظمة التحرير الفلسطينية في بداية الحرب، يميل لصالح تأييد وجهة النظر الإيرانية، فكانت كل كلمة مني محسوبة، ومجهولة النتائج، لذلك كان عليّ إلتزام الصمت، وعدم التحدث إلا في مادتي (النقد الأدبي) و (ثقافة الخليج العربي)، اللتين أدرسهما في الكلية. كان البلاغ العسكري القومي، الذي يذاع كل مساء، يجذب إنتباه الجميع فتتباري الأغلبية في مديح القائد ـ صانع القادسية ـ خاصة إذا كان مسؤولو الحزب حاضرين في جلساتنا.. بدأ إستعمال قادسية صدام يطغي علي كل التسميات، أما مؤلفو الأغاني والأناشيد، وهواة الغناء فقد راج سوقهم. وفي حفلة في الهواء الطلق أقامتها كلية الأداب، لوداع زميل مصري من هيئة التدريس، إنتهي عقده، وسيعود إلي مصر، عزفت فرقة المطعم الموسيقية، فتدافع الطلبة والطالبات يرقصون مع موسيقاها، ويغنون (غالي.. صدام غالي... غالي) وكنت للمرة الأولي أسمع الأغنية وأشاهد الرقص المصاحب لموسيقاها، فسألت مستغرباً : ماهذا؟ فأجابني الزميل المصري بصوت عال : (ثقافة قومية ياجاهل)، فضج بعض الحضور بالضحك وآخرون بالسكوت الضاحك!.
بداية الشهر الخامس للحرب، أدرك العراقيون أنها حرب سنوات.. سنوات، حرب طويلة الأمد، بدأت المستشفيات تكتظ بالجرحي والمصابين، والمقابر بالقتلي المعروفين والمجهولين. وشاعت أخبار مفرمة العمارة التي يفرمون فيها الجثث، كي لا يضيعوا وقتاً وتكاليف في إجراءات وطقوس دفنها، وكي لا يعرف المواطنون أن أولادهم قتلوا، ويعيشوا علي أمل أنهم مازالوا يقاتلون في قواطع القتال المختلفة، أو أنهم أسري لدي الجانب الإيراني. وبدأ تقنين المحروقات والمواد الغذائية، وعاد نظام البطاقة التموينية، وبدأت أعداد الشباب العراقي تختفي من الشوارع والميادين والجامعات ومراكز العمل، ويزج بها في ميادين القتال بعد تدريب لا يستمر سوي أيام معدودة، لاتؤهلهم كمقاتلين حقيقين. وعُرفت في الشوارع العراقية في كافة المدن ظاهرة ملايين المصريين الذين حلوا في جميع أماكن العمل المدنية محل الشباب العراقي الذين أُرسلوا لميادين القتال، وكنت تسير في قلب مدينة البصرة أو شارع الرشيد في بغداد، فتتخيل نفسك في حي من أحياء القاهرة لطغيان اللهجة المصرية، ولولا الأيدي العاملة المصرية لأنهارت أغلب البنى التحتية للحياة اليومية في العراق. أصبحت قادسية صدام، محور كل ميادين الحياة، حتي النقد والأدب والفن التشكيلي والفن المسرحي وكافة ميادين الحياة والإبداع، والحزب وقائده ومخبروه يتجاهلون أنها حرب تستمر وقودها الشباب العراقي، وغالبيتهم غير مؤمن بها. أصبح شيئا ًإلزاميا ً أن تكون كافة أوجه الحياة العراقية، أرضاً وشعباً، في خدمة (قادسية صدام)، ولم تسلم من ذلك جميع مجالات الحياة الثقافية والأدبية والفنية. كان كل ماله علاقة بالقادسية وصّدامها، يجد طريقه للنشر والمسرح فوراً، واصبح لزاماً علي كل واحد من أرض العراق، أن يكون مسماراً في آلة هذه القادسية. زارنا في كلية التربية بجامعة البصرة، محرر شاب من جريدة (الثورة). وزع علي أعضاء هيئة التدريس ورقة حول (القادسية) فيها أسئلة مختلفة تصلح لكل تخصص، حسب عضو هيئة التدريس، والمواد التي يدرسها. وطلب منا بشكل آمر، أن نُجيب علي هذه الأسئلة، وسوف يعود بعد ساعتين، ليأخذ أجوبتنا، وينشرها في الجريدة، علي شكل مقابلات صحفية معنا. بدأنا صامتين مذهولين، نتصفح الأسئلة، نفكر ماذا سنكتب، ماذا سنجيب؟. إنكب الزملاء العراقيون يجيبون علي الأسئلة بشكل لاإرادي، رغم عدم قناعة أغلبهم، لكن الحرص علي الحياة والعيش، أكثر إلحاحاً من نوعية الإجابة... عاد الصحفي الشاب بعد حوالي ساعتين، جمع الأجوبة وتوجه نحوي سائلاً.. عيني وين أجوبتك؟
أجبته.. عيني... أنا مدرس النقد الأدبي.. مالي في السياسة.
أجابني.. أخي.. هاي فرصة.. أكتب لنا عن دور النقد الأدبي في خدمة قادسية صدام.
ـ عيني... هاي مفاجأة لي... وتحتاج لوقت.
ـ ما فيه مانع... أرسل لي الأجوبة بالبريد.
لم أتمكن من الضحك، رغم أن الموقف يستدعي الضحك، (فربّ ضحكة أوردتك القبر)، وبعد يومين طالعتنا جريدة الثورة بأجوبة الزملاء علي شكل مقابلات صحفية، قالوا فيها ماقالوه ومايريده رئيس التحرير.

أصبح الإستمرار في العمل بكلية التربية، بجامعة البصرة، بالنسبة لي كابوساً مزعجاً، وأحلاماً مليئة بجثث العراقيين وأشلائهم. فكان لابد من ترك العمل، ومغادرة البصرة، ولكن بحكمة وروية. ففي ذلك الوقت، تهمة كل من لايكون مسماراً في القادسية، هي العمالة والتجسس لحساب الفرس المجوس!. إتصلت بالزميل الكاتب الصحفي حنا مقبل في بيروت، وكان رئيساً لإتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين، وطلبت منه أن يرسل لي رسالة بإسم الإتحاد، يطلب مني أخذ إجازة بدون راتب من عملي في الجامعة للتفرغ لمشروع ثقافي فلسطيني في بيروت، وصلت الرسالة بعد حوالي ثلاثة أسابيع. قدمتها لعميد الكلية، وافق علي طلبي، وغادرت جحيم قادسية صدام إلي بيروت... غادرت وقد فاتني ـ عامداً ـ شرف مساهمتي ومساهمة النقد الأدبي في قادسية صدام!
في عام 1984م عدت إلي بغداد، ضمن وفد رسمي لإتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين، وكان في إستقبالنا في مطار بغداد، السيد (سجاد الغازي) الأمين العام المساعد لإتحاد الصحفيين العرب، وكانت بغداد مقر الإتحاد آنذاك، و كان من ضمن برنامج الزيارة، أن نلتقي بعض مسؤولي الكفاح المسلح في القيادة القومية، وهو المكتب المسؤول عن الفصائل والمنظمات الفلسطينية، وكان مسؤوله آنذاك الفلسطيني ناصيف عواد (أبويعرب). حاول مسؤولو المكتب إنتزاع تصريحات منّا، ضد الموقف السوري من الحرب مع إيران، لكننا فوتنا عليهم الفرصة، رغم إلحاحهم ومناورتهم، ورغم ذلك صدرت في اليوم التالي، جريدة الثورة بالخبر التالي (زار أمس وفد إتحاد الكُتاب والصحفيين الفلسطينين مكتب الكفاح المسلح في القيادة القومية، حيث شرح له مسؤولو المكتب أبعاد الموقف السوري المتخاذل من الحرب الإيرانية ضد العراق). قرأنا الخبر، ضحكنا خاصة أننا قادمون من دمشق وعائدون إليها، فكيف ستفهم الأجهزة السورية البعثية هذا الخبر؟.
أيام ذكريات البصرة بالنسبة لي، لايوجد فيها من لحظات الفرح، سوي اللقاءات الحميمة مع أصدقائي العراقيين، وحماسهم لكل مايتعلق بفلسطين، رغم عذابهم وموتهم اليومي علي يد الطاغية. لاأعتقد أن العصور العربية قديمها وحديثها، شهد العديد من أمثاله. ففي بداية العام الثالث من الحرب كان منظر توابيت الموتى هو الصورة الخلفية للحياة العراقية، ناهيك عن قصص قتل وقطع أذان وألسنة ممن يرفضون التوجه لميادين القتال. وقد شاهدت وعشت قصصا أبشع مما في أفلام الرعب...ورغم معايشتي لتلك القصص إلا أن قصة منها تكررت حتى أصبحت رعبا يوميا لشباب العراق، وأترك رواية واحدة من قصص هذه الجرائم المخيفة، للمواطن العراقي (معن الربيعي ) الذي يعيش الآن في السويد، وكان عام 1982 يعيش في العراق وعمره آنذاك 12 عاما... كتب معن لي يقول : (كان عمري إثنى عشر عاما، حين أخذونا إلى معسكرات الجيش الشعبي في صيف عام 1982...بعد يومين أو ثلاثة من وصولنا إلى المعسكر، رأينا عدة سيارات تقترب من المعسكر، فيها ناس مد نيون من النساء والرجال. إقتربت تلك السيارات. نزل منها رجل وإمرأة كبار السن، وتبدوعليهما علامات الخوف والحزن الشديد. أجلسهم بعض الحراس في مكان من المعسكر، ونحن الأطفال نشاهد ونسمع الإهانات والتعنيف الذي يوجه إليهما، ثم جاءت سيارة عسكرية، فرأينا ثلاثة جنود مقيدي الأيدي، ومعصوبي الأعين، ثم إختاروا واحدا منهم وأخبرونا أنه هرب من حرب قادسية القائد صدام، فبدأ الرجل والمرأة يبكون وجنود الإنضباط العسكري يعنّفوهم بشدّة، ثم أحضروا لهما زجاجتي كولا وطلبوا منهما البدء بشربها وهما يرون إبنهما يقتل..ثم طلبوا منهما ثمن الرصاصات التي سيقتل بهما إبنهما، وكان الثمن خمسة فلوس. طلبوا منّا نحن الأطفال الإقتراب أكثر ونحن نرتعد خوفا و فزعا ولا نجرؤ على الشكوى أو البكاء، ثم نظر فينا أحد الضباط وقال : إن هذا الجبان هرب من الجبهة..هرب من حرب قادسية صدام..والآن سنقتله أمامكم كي تعلموا مستقبلا أن هذا هو مصير من يهرب من جبهات القتال...ثم ربطوه إلى عمود منتصب فوق الأرض، وبدأوا بإطلاق الرصاص عليه بكثافة..ولم يسمح لوالديه بالإقتراب من جثته، وكادوا يقتلون والدته لأنها تبكي..).
إن هكذا إجرام لا يمكن وجوده في أفلام الرعب....وهذه اللقطة مثلها مئات الآلآف عاشها الشعب العراقي في زمن ذلك المجرم صدام، ومن يشكك في هكذا قصة، عليه أن يتذكر أن هذا المجرم قتل عام 1996 حسين كامل زوج إبنته رغد..من يتخيل مجرما بهذا الشكل مهما فعل زوج إبنته... أي مجرم ييتم حفيديه.....ورغم ذلك تستمر إبنته رغد في إبداء الإعجاب بأب مجرم قاتل...
...ديكتاتور مجرم جعل من العراق أرضا و شعبا مزرعة لنزواته هو وعائلته، خاصة المجرمين (عدي وقصي) لا رحمة الله عليهما، فليس صحيحا أن الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة، فبعض الموتى لا تجوز عليهما إلا اللعنة، وفي إنتظار نفس المصير لوالدهما الذي علمّهما الإجرام، علّ ذلك يخفف من حزن ملايين العراقيين والعراقيات!!!.
[email protected]