يبدو أن اغتيال الرئيس الحريري هو آخر الاغتيالات السياسية التي ستشهدها الشعوب الناطقة بالعربية في العصر الحديث. والفضل في تقديري يجب أن ينسب إلى المحقق القضائي الألماني ديتليف ميلس، الذي تم انتدابه من قبل الأمم المتحدة لكشف جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
فبعد أن وجه الاتهام رسمياً إلى الجنرالات الأربعة صراحة بالجريمة، وسيق ـ نظراً لذلك ـ هؤلاء الهوامير الكبار إلى السجن، وأخفقَ في المقابل جميع من (عينوهم) ومن (أمروهم) ومن (ساندوهم) ومن خيّلَ إليهم أنهم سيستفيدون سياسياً من الاغتيال، في إنقاذهم من (الورطة) الجنائية، ورقابهم الآن هي أقرب الرقاب ـ على ما يبدو ـ لحبل المشنقة، أو إلى السجن المؤبد على أفضل تقدير، فإن هذا الألماني الهادئ جداً، والمتزن جداً، و(العفريت) جداً، يدخل تاريخ المنطقة، كل المنطقة، كأحد أهم الأبطال (المحررين)، حقيقة لا مجازاً، لهذه الشعوب المسحوقة المغلوبة على أمرها من نير و ظلم وقمع حكامهم الجنرالات.
ويبدو أن الرئيس رفيق الحريري الذي بنى لبنان ما بعد الحرب في حياته، قدرَ الله له أن يُكملَ بنيانها أيضاً بعد مماته ومن قبره. كنا نظن أن انسحاب السوريين من لبنان كان هو آخر ونهاية (إنجازات) الشهيد، وأن الاغتيال قـَــلبَ السحر على الساحر، وأن الرأس المدبر أراد أمراً، فجاءت النتيجة عكس ما أراد تماماً. وأن الخسارة الفادحة تجلت في أوجها بانسحاب (رستم غزال) من (عنجر) يجر معه ألف ذنب من أذناب الخيبة والغباء وسوء التقدير، إضافة قدر كبير من الخسائر على المستوى السياسي و المالي، وأن الأمر انتهى عند هذا الحد، وأن الحلف بين (القبح) و (والجمال) هو حلفٌ ترفضه الطبيعة، قبل أن يرفضه اللبنانيون!.
غير أن العفريت (ميلس) قرر أن يثبت لبني يعرب قولهم في آثارهم : ( لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). فكان كالذي يرد لأهل (الشام) بضاعتهم، ويُحدثهم بلغتهم، ويحتكم إلى مقولات تراثهم!.
فالمشهد لم يكتمل بعد على ما يبدو!.
طائرة السيد ميلس ستحط بإذن الله ورعايته وحفظه في مطار دمشق الدولي يوم السبت ما بعد القادم. ومن هناك سيبدأ فصل جديد من فصول المشهد، وسيفعّلُ هذا الثعلب الماكر :(ربما) التي قالها في مؤتمره الصحفي الأخير في بيروت حول اشتباهه بالجنرالات الأربعة، لتتحول إلى : (بالتأكيد) حصراً هذه المرة، بعد أن يُبهّـرَ الطبخة بقدر غير قليل من أهل دمشق، حكام بيروت السابقين!.
وبعد كل هذه الإنجازات، وهذه الفتوحات الإنسانية العظيمة، ألم يضرب ميلس (الألماني) لبني يعرب درساً في الأدب لن ينساه (جنرالاتهم)، عندما تنفتح شهواتهم لشفط دماء شعوبهم؟... إنهم سيفكرون ألف مرة قبل أن يضغطوا على زناد البندقية، أو يضغطوا ريموت الكنترول لتفجير وإلغاء هذا أو ذاك ؟!.
والسؤال : رجلٌ يُسطرُ لكم يا بني يعرب كل هذه الإنجازات، ويخيفُ تلك الأفواه المضرجة بدمائكم، ويحميكم من شر التفجير و التدمير و الاغتيالات، ألا يستحق أن يكون لكم (بطلاً) قومياً، أكثر مما يستحقه ميشيل عفلق و البيطار وجمال عبد الناصر؟.