1

كانت "العبرية" هي لغة عمري من سنّ 11 إلى سنّ 34. طوال هذا المدى الزمني الكبير، ظلّ اللسان العبريّ، لسانَ يقظتي ومنامي الوحيد. أعمل في عدة مدن إسرائيلية، ولا أعود إلى بيتي في خان يونس، سوى في الإجازات - يوم واحد في الأسبوع، في أفضل الأحوال، واليوم نفسه، في الشهر أو الاثنين، في أسوأها.
لذلك، لم أكن أتكلم العربية، إلا لماماً، وعلى نحو خاطف: مع الأهل وأصدقاء المخيم، وفي زيارة ليست مخصصة للنقاهة والاستجمام، أصلاً، وإنما للنوم المتواصل والراحة الجسدية فحسب.
هكذا مضت حياتي من سنّ 11 إلى سنّ 34. وعليه، لم يكن مستغربا ولا مستهجنا، أن أتكلم العبرية في أحلامي - حتى مع أمي التي لا تجيد منها سوى عشرات المفردات! فالمنهج العقلي العلمي، يعرف أن ثمة ألف سبب وسبب، يكمن وراء، ويفسّر ويضيء، هذه الحالة.
في البداية، وحين كان يسعفني الحظ بالعمل مع عمال عرب، كنت أسألهم عن حالي، فيبتسمون، ويجيبون: كلنا في الحلم عبريو اللسان. على الأقل، وكما أذكر الآن، اثنان منهم كانا يعانيان ما أعاني. أما الآخرون، والذين كنت أسمعهم، في تفاصيل الواقع اليومي، يخلطون القليل من العربي مع الكثير من العبري، حتى وهم مع بعضهم البعض، فقد أجابوني إنهم، يتكلمون اللغتين في الحلم، كما هو حالهم في اليقظة.
اطمأننت قليلا آنذاك، وبَرَد قلبي. فلست شاذا، وثمة من يشاطروني هذا المآل!

2

في تل أبيب، عملتُ ذات خريف من عام 76، مع يهودي عراقي، طاعن في السن. جاء من العراق وهو في الأربعين تقريبا، وأمضى في اسرائيل، نحو عشرين سنة. تصادقنا، وأحبني الرجل، فكان يعاملني كواحد من أولاده. بل كان يفضلني على أولاده العاقين. وبطبيعة الأمور، صار يسرّ لي بدخيلته وهمومه واغترابه الباهظ، في مجمتع رأسمالي لا يرحم.
سألته ذات ظهيرة، ونحن في فترة الراحة، بأية لغة يحلم وهو نائم؟ ضحك وأجابني: باللهجة البغدادية بالطبع! فرحتُ بجوابه، فالرجل لم يخن ينبوعه بعد. رغم أن المسألة كلها، لا تعدو أن تكون لا إرادية، وفوق الوعي. حكيتُ له قصتي، فأرجعها إلى استغراقي في اللغة العبرية، وأننا نحلم بما نحن مستغرقون به في الواقع. اطمأننت مرة أخرى، مؤمّلاً، أن تتغير لغة أحلامي، بتغيّر الحال والمآل. بيد أن الحال لم يتغير، بل تفاقم وازداد سوءً. وهكذا كرّت السنوات، حتى وجدتني، أمام الحقيقة الذريعة: هأنذا أدخل في مفتتح الكهولة، كما لو جئت إليها، عن طريق السهو، وما زال حالي، نفس الحال!

3

خلال ذلك، بدأت قصتي مع الشعر، وبدأت أتذوق نشوة القراءة. فصرت أشتري الكتب العربية، من القدس ويافا وحيفا، وغزة. صرت قارئاً محترفا، وصارت القراءة تعوضني عن جوعي إلى العيش بين العرب. فأنا في النهار، أحمل الاسم العبري " دوف "، وفي الليل، حين أنام وحيداً، في مكان العمل، أعود إلى اسمي العربي، وأقرأ الحروف العربية البهية.
لكن، كل هذا، لم يؤثر في أحلامي. مما دفعني، لتقليل ساعات العمل، وتكثير ساعات القراءة، حتى تساوى الوقتان، بل وازددت قرباً من العربية، قراءةً لا نطقاً، فغدوت أتكلمها مع ذاتي، أكثر مما أتكلم العبرية مع الآخرين. فعلت هذا، كنوع من ميكانيزم الدفاع والحماية، إنما دون جدوى. فقد بقيت العبرية لغة أحلامي الوحيدة، ولم تخالطها العربية سوى في أقل القليل من الأحلام والكوابيس!

4

أطرف ما حدث معي، عامي 74 و75، أنني كنت أتكلم مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، حين يزوراني في حلمي، بعبرية التل أبيبيين الشكناز! فلكم أن تتخيلوا منظر الأديبين الجليلين، وهما يتكلمان هذه اللغة بتلك اللهجة! كانا آنذاك، أديبي المفضلين، وكانت جميع كتبهما تقريباً، تتنقل معي، من مكان إلى آخر، فيما يشبه المكتبة الصغيرة المتنقلة.

5
ذات يوم، وكنت أعمل في البنيان كعامل بناء، ذهبنا إلى فندق على شاطىء البحر، بهرتسيليا، كيما نرمّمه ونجري عليه بعض الإصلاحات والتجديد. وأثناء العمل، مرّ من جانبي، وزير خارجية إسرائيل الأسبق، آبا إيبان، متأبطاً حزمة من الصحف والمجلات، وفي يده كرسي صغير من القشّ. كان يومها عضواً قيادياً في حزب المعراخ، ما يزال، ومع هذا، كان يمشي بمفرده، لابساً شورتاً قصيراً، ثم جلس قبالتي، تحت شمس الصيف المعتدلة، وشرع يقرأ.
فكّرت فيما كنت قرأته من قبل، من أنه ترجم "يوميات نائب في الأرياف" إلى العبرية، وجاءني الهاجس، أن أذهب وأعود بالرواية، التي كنت محتفظاً بها، في مخزن البناية، حيث أبيتُ. نفذت الهاجس فوراً، وتوجهت نحوه وفي يدي الرواية، بطبعتها القديمة في درب الجماميز بحي السيدة زينب، وقلت له ما إن وقفتُ قبالته: هل ترى يا سيدي؟ ها هي الرواية التي ترجمتها أنت، أنذا أقرأها، وأستمتع بها، ولكن بلغتها الأصلية!
تفاجأ الرجل، للوهلة الأولى، ثم تدارك أمره، وابتسم لي ابتسامة عطوف، وأخذ يسألني عن أحوالي، وعن اهتماماتي، فسُرّ كثيراً، لأنني، أنطوي في إهابي، على قارىء هاو ومشروع شويعر مبتدىء.
قلت له: ولكنني أريد أن أسألك لو سمحت: لماذا لا أحلم إلا بالعبرية، مع أني عربي ومن غزة؟
دُهش الشيخ الفاني، ولم يستوعب السؤال، وربما فكرني أمزح، وأهزل، ما جعله ينسحب بهدوء، مستأذناً، إلى مكان آخر، بعيد عن التطفل والإزعاج!

6

أكتب بأمانة شديدة ما حصل معي، دون أية رتوش.
في يوم آخر من عام آخر، اشتغلت معي في الحلويات، فتاة يهودية من أصل مكسيكي، وكنت مسؤولاً عنها، بحكم التراتب. بعد نحو شهرين، اكتشفتُ أنها إبنة لدكتورة نفسية، ومعالجة ذات شهرة، في مدينة بات يام. حكيت لها عن الموضوع، فرحبت بي وقالت إنها حكت لأمها عن أخلاقي ومعاملتي الحسنة، وإن أمها لا شك سوف تستقبلني في عيادتها، على الرحب والسعة. قلت لها لا تنسي يا آنا أنني لست مريضاً، كما ترين، ولكنني محتار ومعذّب قليلا، لا أكثر.
المهم: جاءت أمها إلى المحل، بعدما يئست من انتظاري، فقصصت عليها القصة، بمسحة من حياء، وببعض حذافيرها وتفاصيلها، فقالت أنْ لا بد من المرور عليها في العيادة.
لم أتوان، وزرتها ذات مساء شتوي كئيب، فأرهقتني بالأسئلة، هي الضاجة بالبشْر والحياة، حتى أنني خرجت من عيادتها بصداع نصفي رهيب، من طوفان إلحاحها في سرد تفاصيل التفاصيل. ذلك أنني، وإلى اليوم، آنف الخوض بالتفاصيل، وأضيق ذرعاً بها، وبكل من يحاول إغراقي في لجاجها! يعني: أضعت فرصةً، ولم أحاول إعادة اقتناصها، مع أنها مجانية، ولا تكلفني سوى الكلام، لمدة ساعة، مرتين في الأسبوع!

7

لجأت فيما بعد، إلى كتب فرويد ويونغ وجاك لاكان وأريك فروم، وغيرهم، ففهمت شيئاً وغابت عني أشياء.

8

حاولت مرة أخرى، مع بروفيسور مختص، يسكن قريباً من المحطة المركزية، بتل أبيب، فأفادني، لكنني قطعتُ العلاج، بسبب كلفته الخرافية، التي لا تتحملها ظروفي كعامل.

9

يجب التنويه، بأنني كتبت الكثير من قصائدي الأولى بالعبرية، ويجب التنويه أيضاً، بأنني، كثيراً، ما أجد نفسي، أقول الشعر، في الحلم، بالعبرية أيضاً - منذ ذلك الوقت الموغل، وحتى الآن.

10

رأيت في حياتي، أناساً من عشرات البلدان، ومن مختلف القوميات، وسألتهم، هم المزدوجو اللغة والجنسية، عن حالي، فأكد لي البعض منهم، ممن ظروفهم مشابهةٌ لظروفي، بألا أقلق، فما أشكو منه، هو أمر طبيعي تماماً، وأبعد ما يكون عن المرض.

11

آمل ذلك، وإن كنت أشكّ! فما من معنى، لما يحدث معي، سوى العبث، وسوى خيانة الينبوع، كما أحسُّ كشاعر. وأظن أنني سوف أظلّ مؤرّقا، بهذا الموضوع، إلى إشعار آخر. وإلا فسّروا لي أنتم ما جَدّ عليّ؟ فقد زالت كل الظروف الموضوعية التي أجبرتني على الحديث بالعبرية ليلاً ونهاراً، إذ أنا الآن،ومنذ 11 سنة، مستقر في وسط عربي خالص، حيث أعيش وأعمل في غزة، بين أبناء شعبي، وفي حقل الثقافة. بل وأتكلم العربية، على مدار ثماني عشرة ساعة، فلماذا إذاً لا أزال أحلم بالعبرية؟ لشد ما أحرجتني هذه الحكاية، مع نفسي أولاً وأولاً، حتى أنني غضضت النظر عنها، ولم أجرؤ على التحدث بها مع أحد. لقد احتفظت بها كسر شخصي مؤلم، لا أحب لأيّ كان، أن يطّلع عليه. وهذه هي المرة الثانية، منذ 34 عاماً، أتكلم في هذا الموضوع، لإخوة وقراء من العرب!

12

أما المرة الأولى، فكانت ذات ضحى نوفمبري من عام98، وكنت في زيارة إلى بغداد، لحضور مهرجان المربد، وهناك، في الغرفة رقم 1023، من فندق المنصور ميليا، بُحتُ بهذا السرّ، لصديق عراقي قاص، تعرّفت عليه حينها، ولمستُ فيه نبل الشخصية، ورهافة الاستقبال، فأغراني بالفضفضة، بعد أن هيأ السائل السحري، أجواءها المثالية.
أفضتُ أمامه، والرجل منصت، لكنه لم يعقّب، سوى بكلمة واحدة لا تشفي غليلاً، هي: أعانكم الله! فالموضوع فاجأه كما فاجأ من قبل الآخرين. ثم إنه، في الأخير، ليس غاستون باشلار ولا أريك فروم، ولا جاك لاكان، كي يدلي بدلوه في هذا الشأن!

13

[(...) إنها فعلاً لوسوسةٌ شيطانية، أن يحلم الإنسان بلغة ليست لغته الأمّ. عليّ أن أكون مخلصاً لينبوعي.] - غاستون باشلار " شاعرية أحلام اليقظة " ترجمة جورج سعد، الطبعة الأولى، ص 34.

14

فهل أنا حقاً خائنٌ لينبوعي؟ بل ثمة السؤال الأسوأ: هل العبرية، من حيث أدري ولا أدري، وبحكم خصوصية ظروفي، وسياقي التاريخي المأسوي، صارت هي الينبوع؟!!

15
رغم مجاهداتي لإتقان اللغة العربية، وأظن أنني نجحت في هذا، إلا أنّ لغة المرء الحقيقية، هي تلك التي يتكلمها في أحلامه. لأنها أولاً، لغة الجذور، لغة الطفولة، وآخراً، لغة الأغوار البعيدة. بيد أن الأمر معي ليس هكذا، فلغة طفولتي هي العربية، حتى سن 11، فلمَ إذاً كل هذا الالتباس، أيتها الأحلام؟