التصريحات النارية التي أطلقها عبد الحليم خدام ضد النظام البعثي السوري، لا تستدعي خلافا كبيرا حول تحليلها وفهم خلفيتها على ضوء تذكر عدة حقائق منها:

أولا: إن خدام كان من أهم أعضاء القيادة البعثية طوال ثلاثين عاما، وكان من المقربين جدا للرئيس السابق حافظ الأسد، وتولى لسنوات عديدة رسم وقيادة سياسته الخارجية، وبعد تخليه عن المنصب لخلفه فاروق الشرع، أصبح نائبا للرئيس ومن المؤثرين والفاعلين في القيادة بمستوى لا يقل عن فاعلية وتأثير قادة فروع الأمن الداخلي والمخابرات العسكرية بكافة فروعها التي لا يعرف المراقب عددها.

ثانيا: أتاح له موقعه هذا الإطلاع الدقيق على كافة تفاصيل الحياة السورية في مختلف نواحيها، وكان أحد المخططين والمتابعين الفاعلين في الساحتين السورية واللبنانية، ونتيجة ذلك كان ابنه (جمال) يسرح ويسطو وينصب ويهدد في لبنان بنفس مستوى قادة الأجهزة الأمنية كرستم غزالة وحكمت شهاب وغازي كنعان وعلي أصلان وبعلمهم، فهو في الحياة السورية المبتلاة بهم (ابن الأستاذ)!!!. وكان يتصيد الزبائن العرب الخليجيين خاصة للنصب والاحتيال دون أن تجرؤ الأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية على السماع لشكاويهم وفتح تحقيق فيها، طالما الخصم والحكم هو (ابن الأستاذ).

وهذه الحقائق تجعل عبد الحليم خدام واحدا من المسؤولين المباشرين عن الفساد وجرائم القتل والسجون ومصادرة الحريات ومطاردة السياسيين والمذابح الجماعية في حماة وتدمر، ولم يكن أقل مسؤولية من المجرمين القتلة رؤساء الأجهزة الأمنية، فما كانوا يرتكبونه بحق الشعب السوري يتم بعلمه ورئيسه حافظ الأسد وبتخطيط مسبق ورضى منهما. وفي الشأن الخارجي أسس خدام مدرسة البذاءة والافتراء والسباب والتضليل التي ورثها عنه بجدارة فاروق الشرع الذي لم يصدق وهو شبه النكرة أن يصبح وزيرا للخارجية السورية، فاعتقد أن أفضل الطرق للوصول والبقاء في المركز هو ما أبقى سلفه خدام وصعّده لجانب الرئيس وهو أسلوب البذاءة والافتراء والكذب الذي جعل الدبلوماسية البعثية مثارا للقرف في العالم العربي والمحافل الدولية بفضل أداء التلميذ فاروق الشرع وتابعه الذليل وليد المعلم اللذان يحتاجان لقرون ليتعلما الأداء الدبلوماسي المهذب الفاعل. وفي ميدان القضية الفلسطينية التي إستغلها البعث السوري كما العراقي لتلميع صورهم القاتمه الفاسدة، كان خدام ورئيسه حافظ الأسد وراء طرد الرئيس عرفات وخليل الوزير من دمشق عام 1983 وإغلاق مكاتب حركة فتح وزجّ مالا يقل عن ألفين من عناصرها في السجون البعثية، بسبب تكرار الرئيس عرفات الحديث عن عدم مساعدة الجيش السوري في لبنان للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أثناء إجتياح بيروت وحصارها من قبل جيس الإحتلال الإسرائيلي عام 1982، وإنسحاب الجيش السوري إلى البقاع اللبناني حسب الأوامر الإسرائيلية سالكا نفس الطرق الآمنة التي حددها له شارون آنذاك في منشورات علنية، أسقطتها المروحيات الإسرائيلية بالآلآف على بيروت وكافة مناطق تواجد القوات السورية، وقرأناها مع كل من عاشوا حصار بيروت.

إزاء ذلك فإن تصريحات وإعترافات خدام الأخيرة التي شكلت ضربة قاضية للنظام البعثي السوري الذي كان هو أحد أركانه الأساسيين، لايمكن إعتبارها صحوة ضمير أو شهادة تبرئة له، رغم كل محاولاته أثناء حديثه أن يقدم نفسه على أنه لم ينخرط في الفساد والقتل والجرائم الفردية والجماعية في السجون البعثية، وأنه كان ينصح ويقول ويلفت أنظار الرئيس...إلخ التبريرات الضعيفة التي قدمها. إن هذه الإعترافات الخطيرة هي إعترافات مجرم وفاسد ولص كبير، أدرك أن البنيان إقترب من الإنهيار على المجرمين والفاسدين واللصوص، فآثر الهروب في اللحظة ما قبل الأخيرة، علّ الظرف الإقليمي والدولي من خلال إعترافاته وإداناته تلك للنظام الذي هو أحد مؤسسيه وحماته طوال ثلاثين عاما، يسمح بنسيان مشاركته الفعلية والميدانية المباشرة في كل تلك الجرائم والفساد. لذلك فإن أهمية تصريحاته وإعترافاته تنبع من زاوية واحدة وهي (وشهد شاهد من أهلها)، فهي أثبتت بوضوح قاطع كل ماورد في تقرير ميليتس عن دور النظام البعثي السوري في جريمة اغتيال رفيق الحريري وما أعقبها من جرائم اغتيال، كما أثبتت الدور القذر الذي كانت تمارسه المخابرات البعثية في لبنان طوال ثلاثين عاما، خاصة ضباطها السفلة أمثال رستم غزالة، حيث كان رئيس الجمهورية اللبنانية ورؤساء أجهزتة الأمنية مجرد موظفين صغار لديهم، وكان القصر الجمهوري المخابراتي البعثي يدير لبنان كما يدير أولئك القتلة أي سجن من سجونهم في عموم سورية.

من هنا بدأت الأنباء تتوارد عن احتمال استدعاء بشار الأسد وفاروق الشرع للتحقيق من قبل المحقق الدولي الذي خلف ميليتس، وعندئذ لن يتمكن النظام القاتل الادعاء أن المحقق الدولي الجديد سيّس التحقيق كما كان يدعّي زمن المحقق ميليتس، فالآن الشاهد الملك موجود وهو من عظام الرقبة، ولن ينفع النظام حفلة الردح التافهة التي أقامها ما يسمى زورا (مجلس الشعب السوري)، حيث تباروا بانحطاط لم تشهده الحياة السياسية العربية في شتم وتجريح خدام، وهم الذين كانوا كالفئران أمامه قبل شهور قليلة، وكنّا نرى كيف ينحنون أمامه عند التسليم، ولولا ذرة من الخجل لقبلوا يديه. إن هذا المجلس في كل أدائه وصمة عار في جبين الشعب السوري، فهو مجرد ببغاوات تردد ما يريده الرئيس وأجهزته الأمنية، والمضحك المبكي أنهم طالبوا بفتح ملفات فساد خدام وعائلته، ونحن مع ذلك ولكن لماذا لم تجرؤ تلك الببغاوات أن تتحدث دقيقة واحدة عن المفسدين واللصوص الذين لم ينشقوا بعد، وسؤالهم عن ملياراتهم هذه كيف جمعوها؟؟. أم أنهم لم يسمعوا عن ملايين رستم غزالة ومليارات آل مخلوف وآل شاليش الذين جاءوا حفاة عراة إلى دمشق، وكيف جمعوا هذه المليارات عن طريق الفساد والاحتيال في سورية ولبنان بكل الوسائل غير المشروعة بما فيها تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال وفرض الخوات على تجار سورية ولبنان، ومن يصدق أن رستم غزالة كان يؤجر الطريق الدولي من بيروت إلى دمشق لتجار الشام لمدة أربعة وعشرين ساعة مقابل خمسة ملايين دولار، ويكون التاجر قد أعدّ مسبقا عشرات الشاحنات المحملة بكل الممنوعات والمهربات من الكحول والسجائر والأدوات الكهربائية وآلآت الطباعة، لتعبر الحدود طوال أربعة وعشرين ساعة بدون توقف أمام نقاط التفتيش والجمارك.

لذلك فإن تصريحات خدام واعترافاته، تكتسب أهميتها من كونها أهم وأخطر إدانة للنظام البعثي السوري، لكنها لا تبرؤه من المحاسبة والعقاب مع كل رموز الفساد والجريمة في النظام البعثي السوري، الذي لا أعتقد أن هناك مواطنا سوريا خارج دائرة الفساد والجريمة هذه، لا يتمنى سقوطه في أقرب فرصة، دون أن تخدعنا المظاهرات اليومية التي يسيّرها النظام في شوارع المدن السورية دعما كاذبا لسلوكه المجرم، فنحن من خبر النظام البعثي السوري ميدانيا نعرف آلية تسيير المظاهرات بالقوة والتخويف عبر إخراج الطلاب من مدارسهم وجامعاتهم والعمال والموظفين من مراكز عملهم، فيسير فيها هاتفا بحياة المفسدين والمجرمين حتى من قتلوا ابنه أو أخاه، وفي سرّه يطلب من الله التعجيل بنهايتهم.

وهكذا فإن خلاف المجرمين والمفسدين واللصوص فيه رحمة لشعوبهم وكشفا للحقائق التي نكتب عنها منذ سنوات، فيتهمنا بعض الببغاوات بأننا نتجنى على النظام القومي البعثي حامى الحمى ومقيم التوازن الإستراتيجي مع العدو الإسرائيلي ومحرر الجولان وباني أكبر نهضة صناعية وهمية أفقرت الشعب السوري ونهبت خيراته، فبعد اعترافات (شاهد من أهلهم) لا مجال إلا للإطاحة بهم ومحاسبتهم، علّهم يذوقون طعم السجون والعذاب الذي أذاقوه لملايين السوريين واللبنانيين، والمهم أيضا إعادة المليارات التي نهبوها لخزينة الشعب السوري كيف يكف فقراؤه عن البحث عن الفتات في القمامة كما قال خدام، ولم يرتدع ضميره وعقله واستمر واحدا من اللصوص والمجرمين طوال ثلاثين عاما..(وما للظالمين من أنصار)!!!!.

[email protected]