لا حكومة إئتلاف وطني. لا حكومة كفاءات مستقلة. فقط مناكفات فصائلية مقيتة، وفقط هروب إلى الأمام. سلطة برأسين، وببرنامجين سياسيين مختلفين ومفترقين. والحصار يزداد وطأة. وصبر الناس قد نفد. فماذا بعد: ماذا بعد؟ لا شيء يلوح في الأفق، لأنه لا أفق من الأصل. تتعدد الوساطات الخارجية، مصرية وقطرية، دون طائل. وتقترح قوى وأحزاب داخلية حلولاً عقلانية ومحترمة، وما من طائل أيضاً. فلا أحد في الكيانية الفلسطينية الحديثة، يستمع للآخر، وإن استمع، فإنه لا يأخذ الأمر على محمل المسئولية الواجبة. كل الطرق سُدّت، وكل المنافذ أُغلقت، ما بين الأخوة الأعداء، ولم يبق ثمة سوى شبح الاحتراب الداخلي، وكابوس الفوضى العامة الشاملة. كل الأمور تدفع بهذا الاتجاه، للأسف. وما لم يتفق الفلسطينيون فيما بينهم، وسريعاً، فإن الخيارات أمامهم محدودة، وكل واحد منها أسوأ من الآخر، وكلها بالنتيجة ستكون وبالاً على هذا الشعب المعذّب المنكوب. إن أخشى ما نخشاه، في هذه الحقبة العصيبة من تاريخنا، هو انهيار هذه الكيانية الفلسطينية، التي تأسست بعد اتفاقية أوسلو، والتي بذلنا من أجلها الغالي والنفيس، على مدار عقود، على أمل أن تصل بنا إلى شاطىء الدولة الفلسطينية ذات السيادة. فثمة خطر جدي وحقيقي في أن تذهب هذه الكيانية، في المستقبل القريب، أدراج الرياح. خطر جدي وحقيقي، يترسّخ يوماً بعد يوم، ويشير إلى قرب وقوع الكارثة. العقل الجمعي الفلسطيني، الخلاق في حل الأزمات، كما يُقال، تعطّل أخيراً، وأُحيل على الاستيداع. حرمة شهر رمضان، لم تمنع الرصاص الفلسطيني من اختراق صدور الفلسطينيين. أحد أسود، سمّوا ذلك اليوم، ونسيَ من أطلق التسمية، أنّ كل آحادنا، بل كل أيامنا صارت بلون السواد. ردح وقدح، والحقيقة ما بينهما غائبة ومقتولة. الفصيل فوق فلسطين، والحزب فوق شعب فلسطين، والحركة فوق مصالح فلسطين المرحلية والاستراتيجية في آن. هكذا هو حالنا، وهذا ما وصلنا إليه _ لمن يريد أن يعرف، وأن يرى، دون حجاب ولا نقاب. فتنة تندلع في شهر رمضان، ويروح ضحيتها الأبرياء وعابرو السبيل. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، لقلنا فليرحمهم الله، وليغفر لنا، لكنها فتنة، تطل برأسها الشيطاني، بين الفينة والفينة. فتنة هي جنين حرب أهلية قادمة (ولمن لا تعجبه هذه التسمية، بسبب غياب الطوائف والمذاهب في فلسطين، فليستبدلها بأية تسمية أخرى، ليسمّها مثلاً quot; حرب فصائلية quot;) لا تُبقي ولا تذر. فلا تهمّ التسميات إذا تساوت النتائج.
قادة من حماس وفتح يؤكدون شيئاً ما، ويأتي قادة آخرون فينفون التأكيد، فمن نصدق؟ احترنا واحتار دليلنا كما يقول أخوتنا المصاروة. إن مصيبتنا الكبيرة، هي في تغليب الفئوي على الوطني: في اختصار فلسطين بتضحياتها العظيمة إلى حماس وفتح. وكأنّ فلسطين لم تكن قبلهما ولن تكون بعدهما.
في نشرة أخبار الفضائية الفلسطينية، التي تسيطر عليها فتح، ثمة خبران متتاليان: في الخبر الأول، يقف الرئيس محمود عباس، في مؤتمر صحفي، على أرض غزة، مع وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم، ويقول بأن الوساطة لم تفشل والجهود لم تفشل. ثم بعد هذا الخبر مباشرة، يقف مستشار الرئيس الإعلامي، ليؤكد فشل الوساطة القطرية، ولا يكتفي بهذا، بل يقول بلا جدوى إجراء المزيد من جولات الحوار مع حماس. فمن نصدّق الرئيس أم مستشاره؟ وفي الجانب الثاني، من نصدّق أيضاً: نائب رئيس الوزراء الدكتور ناصر الدين الشاعر، حينما قال بأن حماس لن تفرض نفسها على الشعب الفلسطيني، أم أقوال محمد نزال، القيادي في الحركة، من أن حماس لن تتخلى عن الحكم ولو يوماً واحداً، مهما تكن الظروف والملابسات؟
لقد تعبنا يا ناس وآن لنا أن نرتاح قليلاً من هذا المقت وهذا الغمّ. إن مليون فلسطيني يتضورون جوعاً، فماذا تنتظرون بعد؟ قطاع غزة بأكمله لا توجد به شمعة تنوص في عتمة ليله الطويل الثقيل. لي أكثر من أسبوع أبحث عن شمعة واحدة في أسواق غزة وخانيونس، فما وجدتها. إسرائيل التي ضربت مولّد الكهرباء الوحيد، في جريمة حرب جديدة من جرائمها، منعت عن أسواق القطاع، حتى الشمع، بل وحتى زجاجات لمبات الكاز. فماذا ينتظر قادتنا في الجانبين؟ لقد رجعنا إلى الوراء، نصف قرن على الأقل: نصف قرن في مدى سبعة شهور فقط. فهل هذا هو الصمود العظيم في وجه إسرائيل العظمى، وهل حقاً هكذا تورد الإبل وتُساس الشعوب؟
إن التعويل على ليّ ذراع حماس، وانتظار أن تنقلب الحركة الأيديولوجية على ثوابتها، هو تعويل أهبل. فلا حماس ستنقلب ولا حماس من النوع الذي يتغيّر. لذا ليس أمامنا كفلسطينيين، سوى الذهاب إلى صندوق الانتخابات. وكل تأجيل في هذا الموضوع هو مضيعة للوقت لا أقل. فواضح أنّ المجتمع الدولي وأطرافاً عربية كذلك، تصعّد من مطالبها، ولا تكتفي بأقل من أن تعترف حماس، جهاراً نهاراً، بإسرائيل، وإلا لن تكون هنالك حكومة وحدة وطنية ترفع الحصار القاتل عن شعبنا.
المجتمع الدولي يتشدد في مطالبه، وحماس محصورة في الزاوية، وتتفاقم عليها الضغوطات الفادحة من كل جانب. وفي مثل هذا الوضع، فإني لا أتوقع من حزب أيديولوجي أصولي، أن يرضخ، بل العكس هو الذي سيحدث: أن يتشدد هذا الحزب، حتى لو كان البديل هو الجحيم ذاتها.
والجحيم في سياقنا، هنا والآن، هو تدمير هذه الكيانية التي نعيش في ظلها، والذهاب بالجميع إلى العدم السياسي، وربما الوجودي أيضاً، فيما يمكن أن يكون حرباً أهلية أو حرب فصائل أو قبائل.
إنني أرى قرب انهيار السلطة الفلسطينية رؤية العين. وأخشى أن يتمّ ذلك بأقرب مما يتصوّر البعض. لماذا؟ لسبب بسيط جداً، وواضح لكل ذي عينين: لأن إسرائيل، صاحبة اليد الطولى في الشأن الفلسطيني، معنية بهذا الخيار أولاً وأخيراً. وهي لذلك توفر له كل الظروف والحواضن المساعدة.
ألم يقل إيهود أولمرت قبل أيام بأن القضية الفلسطينية انتهت؟
كلا .. خُذوا قول أولمرت هذه المرة على محمل الجد، أيها العالم، أيها العرب، أيها الناس! فمار أولمرت، هذه المرة، وكما تدل مئات التفاصيل والوقائع والأحداث، لا يُلقي القول على عواهنه، كما هو شأننا نحن العرب، وأبداً لا يمزح!
التعليقات