سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى (6)

رجع سعيد من عند المعلم جابر وهو غير مصدق أنه ربما فى خلال اسبوعين أو ثلاثة سيكون قد تمكن من quot;الطفشانquot; من هذه البلد التى أهينت فيها كرامته حتى بدون كلمة إعتذار، ومن فرط سعادته كان على إستعداد أن يطلقها quot;زغرودةquot; فى وسط محطة القطاربالأسكنرية، وأخذ يبنى أحلاما عما سوف يفعل بالفلوس عندما تجرى فى إيده quot;زى الرزquot;، وعما سوف يفعله مع بنات البحر المتوسط، واللواتى يطلق عليهن quot;اللحم الأبيض المتوسطquot; !! بنات زى quot;لهطة القشطةquot; كما يشاهدهن فى التليفزيون ، ولا وجه للمقارنة بينهن وبين البنات quot;الغفرquot; فى القرية.

...
ووصل القرية قرب الفجر، فذهب لصلاة الفجر فى المسجد وزاد من الدعاء وطلب التوفيق من الله سبحانه وتعالى فى مهمته لتأمين المبلغ الذى طلبه المعلم جابر .
وذهب البيت ووجد أمه فى إنتظاره على أحر من الجمر، وقالت له:
- إيه حكايتك ياسعيد يابنى كل يوم تيجى بعد الفجر، إيه إللى حصل، إنت داير على مين الأيام دى ومخبى علىّ، إنت يابنى كنت بتصلى العشا وتنام.
- أنا يامة فيه موضوع مهم عاوز أكلمك فيه، بس الصباح رباح.
- إيه ياسعيد شغلتنى؟
- لأ خير يامة، إن شاء الله كل خير.
ولم تنم أم سعيد ليلتها، وأخذت تفكر فى الأسوأ مثلما يفعل الكثير من البسطاء فى مصر نظرا لهول ماصادفوه فى حياتهم، تعودوا على توقع الأسوأ، ودائما تفاجئهم الأحداث بالأسوأ، حتى أنهم إذا ضحكوا كثيرا يقولون quot;خير اللهم إجعله خيرquot; وكأنهم يستكترون الضحك ويستغربونه من كثر مارأوا من أحزان .، ومضت أم سعيد تدعو :quot; خير اللهم إجعله خيرquot; وتدعو لسعيد بالتوفيق، لأنه هو رجلها الآن بعد أن فقدت رجل البيت، وهى تشفق عليه من تحمل هموم أربع بنات وأمهم، ولكنه رجل من ظهر رجل.
و أيقظت سعيد مبكرا لأنها كانت تعتقد أنه سوف يذهب إلى عمله فى مدينة رشيد إلا أنه قال لها أنه قد أبلغ عمله أجازة مرضية . واصرت أمه على أن يستيقظ لكى تعرف حكايته.
وحضرت له فطور مكون من قطعة جبنة (قريش) ولقيمات عيش ناشف وكوب شاى أسود، وقال لها فى وجود أخواته سلوى وسعاد وسعدية وسناء :
- أنا قررت أسافر بلاد برة .
فضربت أمها على صدرها:
- يالهوى يابنى تسافر وتسيب كوم اللحم ده لمين.
- كوم اللحم ده مش حيبقى كوم لحم بعد كده، كلنا حنعيش زى البنى آدميين .
- ما إحنا عايشين ياإبنى والحمد لله.
- لأ يأمة إحنا مش عايشين، عارفة إختى سعيدة ماتت ليه؟
- عمرها يابنى إحنا حنعترض على قضاء ربنا.
- لأ مش عمرها، سعيدة كان ممكن تفضل عايشة النهاردة لو كان عندنا حمام زى البنى آدميين، حمام ياعالم الواحد يستحمى فيه بعيد عن الترعة، ابويا نفسه مات لأن مافيش عندنا لا دكاترة ولا مستشفى ولا حتى وحدة صحية .
- يابنى قول الحمد لله بلاش كلام الكفر ده، أبوك كان دايما يقول :quot;لن يصيبنا إلا ما كتب الله لناquot;.
فردت سعاد معترضة:
- والنبى سعيد عنده حق، عمرك سمعتى عن واحدة من بنات البندر ولا بنات إسكنرية غرقت وهى بتاخد حمام .
فردت سناء (من وراء النقاب):
- إحمدوا ربنا، إنتم بتتكلموا كأنكم ماسكين قدركم بإيديكم، ربنا هو إللى بيقدر كل شئ .
فرد سعيد بعصبية:
- إيه الهباب إللى إنتى لابساه ده lsquo; حتى النقاب لابساه جوه البيت، مين إللى علمك الكلام الفاضى، الهباب ده ضرورى تقلعيه، إنتو بتخترعوا دين جديد، المباحث والبوليس مراقبينك .
- يراقبونى طز فيهم، ربنا إللى بيحمينى، وبالمناسبة بقى أنا كمان حسافر، مش حأسافر بلاد برة علشان الفلوس زيك ياسى سعيد، لكن حسافر أفغانستان مع المجاهدين .
تشهق أم سعيد:
- فين أفغانستان دى ياسعيد، وإيه حكاية المجاهدين دى؟
سعيد يوجه كلامه لأخته سناء:
- مجاهدين إيه يابت إنتى إتجننتى؟
- فيه واحد جاى يخطبنى بعد صلاة الجمعة الجاية، وإحنا متفقين إننا نسافر أفعانستان.
سعيد: ماشاء الله، إتفقتى على الجواز والسفر وكل حاجة وإحنا قاعدين طراطير، ده إنتى حتسافرى معاهم تشتغلى ليهم خدامة تنظفى وتطبخى وتزربى عيال .
سناء: إيه يعنى ماأنا هنا شغالة خدامة ليكم كلكم، إنتو بتحسبونى غبية ومش فاهمة، على الأقل مع الأخ إبن حلزة، حيكون لنا بيت وحنعمل عيلة.
سعيد: إبن إيه ... إبن حلزة؟!! همة بيجيبوا الأسامى دى منين؟
سناء ترفع النقاب عن وجهها وتقول:
- بص كويس ياسعيد، ده منظر واحدة حتتجوز قريب !! أنا ما صدقت إن إبن حلزة قبل يخطبنى، من غير ما يشوفنى، لأنه عرف إنى حأعيش معاه ع الحلوة والمرة.
سعيد (ضاحكا) : وحيخطبك من غير ما يشوفك يابت ياسناء، ده حياخد حتة مقلب !!
سناء تبكى وتخرج من البيت .
سعاد: ليه كده ياسعيد تكسر بنفسها، دى سناء غلبانة، ومش حنعرف قيمتها إلا لما تمشى .
سعيد: نرجع لموضوعنا الأصلى، أنا مسافر بلاد برة وحأبعث لكم على الأقل ألفين جنيه كل شهر، وحآخد لكم شقة فى الإسكنرية فيها حمام فيه مية باردة ومية سخنة.
سعاد: ربنا يخليك ياسعيد، علشان أدخل جامعة الإسكنرية.
أم سعيد: إسكنرية إيه يابنى، أنا مش ممكن أسيب بلدى أنا إتولدت هنا وحأموت هنا .
سعيد: إيه إللى وأخداه من العزبة دى، غير الذل والفقر والموت، قبوا على وش الدنيا بقى، سيبوكوا من القرف ده، إنتو ماعرفتوش إللى حصل لى فى مركز البوليس .
ومضى سعيد يحكى لهم ما حدث له فى مركز بوليس رشيد وهو يبكى متأثرا ويقول:
- أنا قررت خلاص ما ليش عيشة فى البلد دى.
سعدية: وحتسافر فين ياسعيد، بلد عربى؟
سعيد: أى داهية أحسن من هنا، لسة مش عارف، فيه واحد إبن حلال حيجيب لى تأشيرة يمكن أروح اليونان أو إيطاليا.
سعاد: كل الناس إللى ربنا سهل لهم سافروا برة ورجعوا بنوا بيوت بالمسلح وفيها كهرباء وحمام وبوتاجاز، بدل ما إحنا عايشين هنا مع البهايم .
سعيد: بس فيه مشكلة كبيرة قوى، المعلم جابر إللى حيجيب لى التأشيرة، طلب خمستلاف جنيه تكاليف التأشيرة وتذكرة الطيارة .
سلوى: ياحلاوة .. سعيد أخويا حيركب طيارة، والنبى تاخدنى معاك ياسعيد أنا نفسى أركب طيارة.
سعيد يأخذ سلوى ويحملها على (حجره) ويقبل راسها :
- أن شاء الله حتركبى طيارة وعربية وكل حاجة حتكون آخر جمال، بس عاوزين نعرف حنجيب الخمستلاف جنيه منين؟
سعدية: ده إنت لو بعتنا كلنا فى سوق التلات ما نجيبش خمستلاف جنيه!!
أم سعيد: والله ياإبنى سفرك على عينى، لكن العين بصيرة والإيد قصيرة.
سعاد: طيب ما نبيع الجاموسة والحمار .
أم سعيد: تفى من بقك ياسعاد، الجاموسة والحمار دول كل إللى حيلتنا فى الدنيا، حتى حتتين النحاس إللى إتجوزت بيهم مالهمش قيمة دلوقت كل الناس بتطبخ بالألومونيا.
سعيد: طيب والعمل؟
سعاد: ما فيش حد فى البلد يسلفنا؟
سعيد: مين يسلف ناس شحاتين زينا .
سعدية: فيه بنت معايا فى المدرسة أبوها عنده الأرض الكبيرة إللى بحرى البلد، أكيد عندهم فلوس كثير يسلفونا .
أم سعيد: إيه رأيك أكلملك مراة العمدة، هى ست طيبة، ويمكن يسلفونا .
سعاد: طيب ليه ما تطلبش سلفة من البنك .
سعيد: قلبك أبيض، البنوك بتسلف الأغنياء بس !! أنا رأئى مراة العمدة حيكون فى إيديها الشفاء أن شاء الله.

....
يذهب سعيد إلى عمله بعد إنتهاء أجازته المرضية، ويتقدم بطلب رسمى بأجازة بدون مرتب لمدة سنة، وتتم الموافقة على الطلب فورا، ويبدو أن رئيسه (ماصدق) يتخلص منه بإعتباره من العمالة الزائدة.
يظهر على ما يبدو أن جناب العمدة طلع شهم حقيقة وأعطى أم سعيد مبلغ الخمسةآلاف جنيه، وقال لها بالحرف الواحد:
- المبلغ ده سلفة ليكى إنتى ياأم سعيد، وإنتى الملزومة بيه، وأنا بأسلف لك المبلغ كرامة للمرحوم جوزك أبو سعيد، عشان كنا بنروح سوا كتاب الشيخ حسن، ودى عشرة عمر، ربنا يرحمه ويرحمنا كلنا.
- من عينية ياجناب العمدة.

...
وذهب سعيد بالقطار إلى الإسكنرية لمقابلة المعلم جابر، وحتى يأمن شر النشالين فقد ربط المبلغ حول وسطه بحزام مخصوص مثل حزام الحجاج، وقد إستلفه من جارهم الحاج على البردويلى والذى عاد من أداء فريضة الحج فى العام الماضى.
....
وعلى موسيقى القطار المتكررة عندما تحتك عجلاته الحديدية بقضبان السكة الحديد أخذ يحلم برحلته إلى أوروبا ويقول لنفسه :quot; أبو المعاطى الديموقراطى جاى لك ياأوروبا يا منبع الديموقراطية، جاى لكم يابنات أوروبا إبن النيل المعجبانى، جاى لكم إبن حضارة خمسة آلاف سنه وفى جيبه خمسة آلاف جنيه، آه بس دول حيروحوا للمعلم جابر، بلاش الفلوس...جاى لكم بطوله وعرقه وعافيته، وأنا مصمم على النجاح، ومعلهش ياأم سعيد وياحبيبتى سلوى الأمورة، راجع لكم بالعجل علشان أنقذكم من الهم الأزلى إللى عايشين فيه طول عمركمquot; .
...
وذهب فى الموعد المتفق عليه مع المعلم جابر فوجده جالسا يدخن الشيشة وكرشه الضخم لا تخفيه الجلابية البلدى الواسعة .
- عفارم عليك ياسعيد، جيت فى الميعاد، سبع ولا ضبع.
- سبع طبعا يامعلم .
- لا يمنى على الفكة !!
- الفلوس جاهزة يامعلم بس فين التأشيرة وتذكرة الطيارة .
- إخص عليك ياسعيد ياأبنى مش مستأمنى، ده أنا ياإبنى سفرت نص شباب الإسكندرية .
- لأ يامعلم سامحنى بس نفسى أشوف تأشيرة على جواز السفر .
- آدى ياسيدى الجواز وعليه التأشيرة أهو وآدى كمان تذكرة الطيارة وعقد العمل .
- ربنا يخليك لينا يامعلم جابر، ودى تأشيرة بلد إيه لا مؤاخذة .
- حتروح ياسيدى مالطة
(يفتر حماس سعيد قليلا)
- مالطة يامعلم، يعنى مالقتش غير مالطة، ده أنا كان نفسى أروح إيطاليا إو اليونان على الأقل .
- إنت حتتأمر ولا إيه إنت كنت عاوز تطفش من البلد بأى طريقة .
- أيوه يامعلم بس مالطة دى أعمل فيها يعنى، أدن فى مالطة يعنى .
- أيوه ياسيدى تدن فى مالطة، وحتاخد سبعمائة وخمسين دولار فى الشهر، قد إللى بتاخده هنا فى سنة، وبعدين ياأهبل، مالطة دى فركة كعب من الإسكندرية، وبيحبوا الإسكندرانية قوى، لما تروح هناك قول لهم إنك من الإسكنرية .
- حاضر يامعلم، وآدى مبلغ الخمستلاف جنيه، إيه رأيك يامعلم أحجز منهم خمسميت جنيه تحت الحساب، لأنى والله العظيم ما فيش فى جيبى غير أربعين جنيه .
يضع المعلم ظرف الفلوس فى جيبه وهو يقول:
- ياعبيط دول ناس بتفهم فى الأصول وعارفين إن الناس إللى بتروح لهم غلابة، وأول ما تروح حيعطوك سلفة وسكن، خللى بالك ميعاد الطيارة بعد نصف اليل،وأنا شايفك جاهز معاك شنطة السفر .

....
وذهب سعيد إلى المطار وأنهى إجراءات الجوازات وشركة الطيران، ودخل إلى الطائرة لأول مرة فى حياته وهو غير مصدق، وأخذ يتلو فى سره كل الأدعية التى يعرفها والتى لا يعرفها لكى يوفقه الله، وعندما تركت عجلات الطائرة ممر المطار وقع قلبه فى رجليه وأمسك بدون أن يشعر فى يد الراكب بجواره الذى حاول أن يطمئنه، وبعد أقل من ساعة ونصف هبطت الطائرة فى ظلام الليل فى مالطة.

وخرج من الطائرة وهو يعتقد أنه قد كتب له عمر جديد، ومشى مع الركاب وهو لا يدرى ما هى الخطوة التالية، ولا حظ أن الركاب إنقسموا قسمين، قسم يبدو أنهم خواجات وقسم آخر يبدو أنهم مصريين فسار مع طابور المصريين، وسأل أحد المسافرين فأكد له أنه واقف فى الطابور الصحيح، وجاء دوره فوقف أمام شباك ضابط الجوازات خلف حاجز زجاجى، وتقدم سعيد وإستجمع بعض الكلمات الإنجليزية التى يذكرها من أيام الدراسة الثانوية:
Peace on You
ولم يرد ضابط الجوازات ويبدو انه لم يفهم أن سعيد يقول له: السلام عليكم .
واعطاه سعيد كل الأوراق التى معه، فأخذ الضابط الجواز فقط وأعطاه باقى الأوراق، وتفحص جواز السفر وتغيرت سحنته عندما رأى ختم التأشيرة على الجواز، وأخذ يرطن بلغة لم يفهم منها سعيد أى شئ، فطلب سعيد مساعدة أحد المصريين فى الطابور، فتقدم أحد المصريين لمحاولة الترجمة، وسمح له الضابط بالتقدم وحادثه بلغة أهل البلد، وتغير وجه المصرى المتطوع للمساعدة، وقال:
- الضابط بيقول إن التأشيرة دى مزيفة، وإنهم ضبطوا كثير منها فى الشهور إللى فاتت .
- مزيفة إزاى يابيه، حتى شوف عقد العمل ده وعليه أختام كثيرة،
وأعطى سعيد عقد العمل للضابط، الذى فحصه وتغيرت سحتنه مرة أخرى وبرطن مرة أخرى وترجم المصرى المتطوع:
- بيقول لك عقد العمل برضه مزيف، وكل الأختام إللى عليه مضروبة.
سمع سعيد ذلك ولم يتحمل الصدمة، واخذ يصيح كالمجنون:
- مش معقول ... مش معقول. ثم أغمى عليه.
وافاق بعد قليل ووجد نفسه فيما يبدو فى عيادة طبية، وكان المسافر المصرى الشهم ما زال معه، وأخذ سعيد يبكى مثل الأطفال، ثم سأل فجأة الساعة كام فقال له: الساعة أربعة
سعيد: يعنى صلاة الفجر وجبت، أنا كان ندر علىّ إنى أذن فيكى يامالطة، وأخذ يؤذن فى مالطة بأعلا صوت:
الله أكبر ... الله أكبر ...حى على الصلاة ... حى على الفلاح ....الصلاة خير من النوم.

[email protected]