(تحية الى كوليت خوري)

سوريا، بحدودها التاريخية والثقافية المعروفة، شكلت(المسيحية المشرقية)، بلغتها وثقافتها السريانية(الآرامية)، هويتها الوطنية لحقبة تاريخية طويلة امتدت حتى نهاية القرن الثامن الميلادي، حيث حدثت في المنطقة تبدلات وتحولات ديمغرافية واجتماعية وثقافية كبيرة مع انتشار الإسلام. ومنذ أن ظهرت دولة (سوريا) بحدودها السياسية الحالية في العصر الحديث عاش فيها المسيحيون دون أن يميزوا أنفسهم عن بقية أقوام ومكونات المجتمع السوري. الذي ميزهم لاحقاً هم (الأغلبية المسلمة) التي وضعت دستوراً يحرم على (المسيحي) تولي رئاسة البلاد وأخذت من (الشريعة الإسلامية) مصدراً أساسياً للتشريع، وبالتالي أنزلت مرتبة
المواطنة للمسيحيين السوريين وانتقصت من حقوقهم المدنية والسياسية، وبذلك وضعت مانعاً أو عائقاً قانونياً ودستورياً في طريق تحقيق العدالة و مساواتهم مع الأغلبية المسلمة( شركائهم في الوطن). مع هذا اندمج المسيحيون في المجتمع السوري وبروح من المسؤولية الوطنية العالية شاركوا في صناعة استقلال سوريا وأخذوا دورهم في بناءها وتطويرها في كل مناحي الحياة وانخرطوا في معظم الأحزاب، لا بل كان لهم الدور الأبرز والفضل الكبير في تشكيل وتأسيس أهم ثلاث أحزاب سياسية في سوريا وبلاد الشام(البعث، الشيوعي، السوري القومي). ويعتبر (فارس الخوري)، مهندس مفاوضات الاستقلال، أحد ابرز الرجالات السياسية الوطنية في تاريخ سوريا الحديث، تسلم رئاسة البرلمان المستحدث لسنوات طويلة، ثم رئاسة الوزراء لمرات عديدة. وأنا أكتب هذه المادة تناقلت وسائل الإعلام بشيء من الاهتمام خبر تعين الأديبة (كوليت الخوري) ndash; حفيدة فارس الخوري- مستشارة للرئيس السوري بشار الأسد. وأفيد نقلاً عنها:بأن هذا التعيين يرتبط بأسباب سياسية، يحمل رسائل الى الداخل ولبنان والغرب، وقالت (كوليت) في تصريح لها لوكالة الأنباء الايطالية (آكي): (( أن القرار فيه ما يبعث على التطمين للمستقلين والدمشقيين والمسيحيين الذين يشعرون بأنهم مهمشون ولا دور لهم في مواقع القرار)). بالطبع، مثلما لا يجوز أن نقلل من أهمية أن تعين (مسيحية) مستقلة مستشارة لرئيس دولة مثل سوريا، كذلك يجب أن لا نستكثر على المسيحيين في (وطنهم الأم) هكذا منصب وهم الفئة الثانية من حيث العدد والإمكانيات والمؤهلات العلمية والسياسية على الخريطة المذهبية والدينية في سوريا، وأن لا نضخم أو نبالغ من أهمية هذا الحدث، خاصة والكل يعلم طبيعة (النظام السوري)، الذي يتميز بـ(مركزية شديدة) وهيمنة العقلية الأمنية(العسكرية) على العقلية السياسية(المدنية)، وأولوية (القرار الأمني) على (القرار السياسي)، الى درجة أقصيت السياسية عن المجتمع وغيبت حرية الرأي والتعبير، حتى في أصغر القضايا السياسية، إذ يستبعد أن يكون لمستشاري الرئيس أو لنوابه، أي دور مهم أو تأثير في صناعة واتخاذ القرار السوري، خاصة تلك المتعلقة بالتوجهات السياسية للنظام، داخلياً وخارجياً. بالطبع نتمنى للسيدة (كوليت) النجاح والتوفيق بمهمتها ونرفع لها ألف تحية وطنية على صراحتها وإقراراها بأن المسيحيين مهمشين سياسياً ومغيبين عن مواقع القرار في سوريا. فهذه المرة الأولى التي تقر وتعترف شخصية رسمية، مسيحية وغير مسيحية، بكون المسيحيين أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة الفعلية في ادارة البلاد وحرمانهم، طيلة العقود الماضية، من المناصب المهمة (سيادية) في الدولة. هذه الجرأة التي باشرت بها(كوليت) مهمتها، هي باعثة أمل وتفاؤل بمستقبل سياسي أفضل ومكانة وطنية للمسيحيين تليق بهم وبتاريخهم الوطني الذي جسده جدها (فارس الخوري)، ستبقى صورته الوطنية محفورة في ذاكرة الشعب السوري. وإن كنا لا نتوقع أن تخفف، هذه الخطوة الخجولة والمـتأخرة جداً من قبل (القيادة السورية)، من مخاوف وقلق المسيحيين السوريين وتطمئنهم على مستقبلهم في هذا الظرف الإقليمي المتوتر والمضطرب إسلامياً والمكلف جداً مسيحياً على مستوى المنطقة، و(الزمن السوري) الصعب الذي يشهد انحسار القوى الليبرالية والديمقراطية والتيارات العلمانية وتنامي الاتجاهات الإسلامية المتطرفة في المجتمع السوري و داخل البعث الحاكم والأحزاب الأخرى، من قوميين ويساريين، واستمرار نهج الهيمنة الطائفية (الإسلامية) وأحكام التمييز الديني (تفضيل المسلم على غير المسلم)، وسياسية القهر القومي على القوميات الغير عربية، وحصول اصطفافات طائفية واثنية ومذهبية، تكشف عنها الكثير من مظاهر الحياة العامة في المجتمع السوري وسلوك الموظفين في الدوائر والمؤسسات الحكومية وكذلك في المدارس والجامعات. هذه الاصطفافات المادون وطنية، تبرز بشكل فاضح ومخجل في (مهزلة الانتخابات)، (مجلس الشعب، مجالس البلديات، النقابات، انتخابات حزب البعث الحاكم ذاته، وانتخابات جميع الأحزاب الأخرى الدائرة في فلكه، من (شيوعيين وقوميين)، حيث الانتماء الديني والمذهبي والعرقي، هو الذي يشكل اليوم الاستقطاب السياسي في سوريا ويحدد اتجاهات التصويت للمواطن في جميع هذه الانتخابات. بعد أن أضحت (المعضلة الطائفية والأثنية) في سوريا، كما في جميع المجتمعات العربية والإسلامية، (ظاهرة سياسية مؤدلجة) تعمل العديد من الأطراف والجهات، بشكل أو بآخر، على تخصيبها وتسييسها وبالتالي الرهان عليها في تحقيق أهداف وتغييرات سياسية معينة. مما يوحي ويشير على أن سوريا تنحو باتجاه (الطائفية السياسية) التي نبذتها في الماضي. من دون شك، هذه الأوضاع السلبية وغيرها، تركت آثار سلبية في نفوس المسيحيين وغير المسيحيين وزعزعت ثقتهم بإمكانية أن ترتقي سوريا الى (دولة مواطنة ومؤسسات)، وبالتالي بقاءها دولة غير مستقرة سياسياً وأمنياً، إذ هناك شعور عام في الشارع السوري، بأن الاستقرار والأمن الذي تنعم به سوريا اليوم لم يعد يستند الى دعائم و مؤسسات الدولة وتماسك المجتمع المدني، بقدر ما يقوم على (استبداد السلطة) والقمع الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، لهذا ثمة تساؤلات وشكوك حول ديمومة هذا الاستقرار السوري، خاصة إذا ما صدقنا رواية النظام حول نشاط الخلايا الإرهابية والمجموعات الإسلامية (السلفية التكفيرية- جند الشام وغيرها) التي بدأت تطل برأسها من حين لآخر وتشتبك مع قوات الأمن السورية.
ربما، لأهداف سياسية(داخلية وخارجية)، يبالغ (النظام السوري)في المخاوف من تنامي قوة (الأصولية الإسلامية) في المجتمع السوري، لكن بالمقابل بعض أطراف في (المعارضة السورية) ولأهداف سياسية، داخلية وخارجية، أيضاً، تقلل من زخم وحجم شعبية التيارات الإسلامية. بغض النظر عن قراءة ورؤية كل من السلطة والمعارضة للواقع السياسي السوري، وعلى ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة في كل من مصر وفلسطين والعراق وتركيا التي حقق فيها الإسلاميون فوزاً مهماً، يرجح الكثير من المحللين السياسيين، صعود (الإسلام السياسي) الى الحكم في معظم الدول العربية والإسلامية في أول انتخابات حرة. هذا التأييد الشعبي الذي تحظى به التيارات الإسلامية، من جهة يعكس احتجاجاً على سياسة الأنظمة القائمة التي لم تنتج ولم تقدم لشعوبها على مدى عقود طويلة سوى الاستبداد والفساد والفقر، ومن جهة ثانية يعود الى نجاح هذه التيارات في توظيف واستغلال الدين لأغراضها وأهدافها السياسية، عبر التضليل الايديولوجي والسياسي الذي تمارسه على الرأي العام، خاصة في تبرير عدائها الآيديولوجي لأميركا والغرب بتحميليهما مسؤولية مآسي وويلات شعوب المنطقة، مستفيدة من ثغرات و أخطاء السياسات الأمريكية في المنطقة ورعايتها، بشكل أو بآخر، للأنظمة القائمة. بالطبع لن تبقى سوريا بمنأى عن رياح (التغيير الإسلامي) التي تهب على المنطقة، مهما حاول النظام إبعاد شبح (الأخوان المسلمين) أو غيرهم من التيارات الإسلامية عن سوريا، خاصة بعد أن سدأبوابها في وجه رياح (التغيير الديمقراطي) والتداول السلمي للسلطة أمام القوى الوطنية المدنية. بلا ريب، صعود الأصولية الإسلامية، تثير مخاوف النظام، كما تثير مخاوف القوى الديمقراطية والليبرالية في المعارضة السورية. النظام يخشى من فقدان السلطة، والمعارضة الليبرالية تخشى انتقال سوريا من الاستبداد السياسي الى استبداد مزدوج (ديني وسياسي) معاً وتحويلها الى (دولة اسلامية)، وهي مخاوف وهواجس مشروعة ومبررة، لأن المشروع النهائي للإسلام السياسي هو إقامة (الحكم والشرع الإسلام) مهما حاول الادعاء غير ذلك وتطعيم خطابه بتعابير الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان. بالإضافة الى هذه المخاوف السياسية العامة من وصول الإسلاميين الى السلطة في سوريا، هناك مخاوف، (فوق سياسية)، تسود الشارع المسيحي، الخوف من فقدان الهامش المقبول للحريات الدينية والشخصية الذي نعمت به سوريا طيلة الحقبة الماضية، وإمعان الإسلاميين في فرض الثقافة والتقاليد الإسلامية على غير المسلمين، بذريعة ضرورة احترام وخضوع الأقليات الدينية لأحكام ورغبات الأغلبية المسلمة، مثلما تفرض اليوم الأغلبية العربية الحاكمة إرادتها وثقافتها القومية على الأقليات الغير عربية، كالآشوريين والأكراد والأرمن وغيرهم..
ما يزيد من حالة الإحباط واليأس والقلق من المستقبل وعلى المصير لدى المسيحيين السوريين، تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في العديد من دول المنطقة العربية والإسلامية التي تحيط بسوريا، والظروف المأساوية التي تعيشها الأقليات المسيحية في هذه الدول بسبب سياسة التمييز والاضطهاد الديني التي تمارس بحقهم، كما يحصل للأقباط في مصر، حيث تفاقمت ظاهرة اختطاف الفتيات والنساء القبطيات واجبراهن على الزواج واعتناق الإسلام واسترخاص الدم القبطي والهجوم على الكنائس من قبل تنظيمات اسلامية، بقصد ترهيب الأقباط ودفعهم للهجرة، في ظل سكوت وتخاذل الحكومة المصرية في حماية مواطنيها. وفي العراق استبيحت دماء المسيحيين وأعراضهم وكنائسهم من قبل تنظيمات اسلامية ارهابية، تتهم المسيحيين بالعمالة لأمريكا والغرب، تمارس سياسية التطهير الديني ضدهم بهدف إفراغ العراق والمنطقة من المسيحيين. قبل أيام أقدمت مجموعات ارهابية على اختطاف كاهن مسيحي في نينوى وقطعت رأسه وألقت جثته في الشارع. بلا ريب، هذه الأوضاع الخطيرة ستدفع بالمسيحيين في سوريا الى المزيد من الانكفاء والانطواء على الذات والتفكير بالهجرة لمن استطاع لها سبيلاً بحثاً عن حياة من غير قلق. كما قد تدفع بالبعض الى تأسيس أحزاب و(تنظيمات مسيحية) تحسباً لتطورات محتملة قد تشهدها سوريا وتكرار المشهد العراقي الأليم فيها، فيما إذا تصاعدت الضغوط الخارجية على سوريا ونظامها القائم. تبدو فرص ظهور تنظيمات مسيحية أكبر في (منطقة الجزيرة)، التي تتكاثر فيها التنظيمات الإثنية والعرقية والطائفية، والتي شهدت اضطرابات عرقية وأحداث عنف دموية في السنوات الأخيرة، نبهت المسيحيين، وغالبيتهم من الآشوريين(سريان/ كلدان) والأرمن، الى المخاطر المحدقة بهم في حال حصول أي فراغ أمني وغياب سلطة الدولة، خاصة بعد مقتل شابين آشوريين وبطريقة وحشية ومن غير سبب أو مبرر على أيدي متطرفين عرب في مدينة الحسكة 2004.

سوري آشوري- القامشلي/ مهتم بقضايا الأقليات
shosin@scs-net. org