في بلادنا، يصعب على المثقف الدنيوي أن يمارس التفكير والكتابة والسجال، بصوتٍ عال أو حتى منخفض النبرة، كما يفعل نظراؤه في البلدان الأخرى. بل إنه، بعد أن يكون قطعَ مسافة بلا عودة، من سيرته ومسيرته، ليصعب عليه مجرد أن quot;يعيشquot;. فهو، في الأول والأخير، مواطن وكائن اجتماعي، حتى لو ضجّ من تبعات هذه الحقيقة البسيطة. إن مجرد تدبير شؤون العيش، يصبح مشكلة في حدّ ذاته. لا لأن هذا المثقف، من طينة متعالية، تختلف عن طينة مواطنيه ومُجايليه، من عموم ونخبة الناس، بل لأنه، ببساطة فادحة، يحمل قيماً ورؤى وأفكاراً ومبادىء، تتناقض وتتعارض مع ما يحمله المحيط من حوله. فهذا المحيط، التقليدي، الثابت، تربّى على قيمٍ غالبيتها سالبة، وعلى نوع من السلوكيات، تجعله يضمر غير ما يعلن، ويمارس في الخفاء، ما يستهوله في العلن. دون أن تعوزه ترسانة من الحجج، بعضها يتماهى مع المقدس وبعضها الآخر يندغم في المدنس، يستدعيها عند الحاجة، لتبرر له هذا السلوك أو ذاك، بغض النظر عن الدوافع والغايات.
فكيف يعيش المثقف في مثل هذا المحيط، دون مشاكل ودون هموم، ودون منغصات، إلا أن يخون ثقافته، وأبسط قيمها، الصدق مع النفس ومع الآخرين؟ وكيف يتدبّر شؤونه الصغيرة والكبيرة، إلا إذا اختار الشيزوفرينيا، ملاذاً، فصار آخرَ وآخرين تحت إهابه الواحد؟
المجتمع، بمنظومته المعرفية الكاملة، يجهد في تطويعه وتركيعه، من ناحية، وهو، بما حصّله من رؤى وأفكار ومعارف، تجري في كيانه مجرى الدم، يجهد ألا يرضخ لعملية التطويع والتركيع، من الناحية المقابلة. صراع، لا يمتلك فيه المثقف الدنيوي، وهو الهامشي أصلاً، أية أدوات أو شروط، تكفل له الانتصار في هذه المنازلة الصامتة والصائتة معاً، أو الخروج منها سالماً على الأقلّ.
صراعُ فردٍ مفرد، أمام قطيعٍ مجموع : صراع ينهزم فيه معظم المثقفين العرب الدنيويين. إن لم يكن في أول مسيرتهم، ففي منتصفها، أو نهاياتها. ولا تعوزنا ها هنا النماذج والأسماء، فكم من أسماء، سبقت أو جايلت، وكانت تدّعي العلمانية واليسارية، تارةً، والبعثية والناصرية أخرى، فإذا بها، على حين غرّة، أو على حين غروب جسدي، أو أفول مرحلة، تنكفىء على ذاتها وتنكص، فإذا بها تلحق بقافلة المتأسلمين، أو حتى تقطع خطوة أبعد، فتفتخر بأنها، تجلس الآن وحيدةً في خيمة الصوفيين. حيث لم يبق من العمر إلا القليل، وهي الآن لا تبتغي ولا تشتهي إلا الخير وخاتمة الخير ! كأنّ كل ما حملته ودافعت عنه في الماضي القريب والبعيد، من أحلام نبيلة ومبادىء أنبل، كان مجرد قميصٍ نَحُلَ ورَثَّ مع تقادم الزمن، ولا بد من تغييره، هذه المرة، بعباءة أو جلباب أو حتى خِرقة !
أو كأنّ ذاك الذي حملته، كان شراً محضاً، أبعدها عن جادّة الصواب والحق، فتريد العودة، نادمة تائبة، إلى حظيرة الإيمان، الذي هو، حقيقة الحقائق الخالدة، وكل ما عداه، كان هرطقة ومراهقة فكرية وباطلَ الأباطيل.
لقد خان هؤلاء أنفسهم، فإن لم يكن هذا، فذاك : خانوا ثقافتهم، وانتهوا أخيراً، إلى ثقافة وقيم المحيط. فإذا كان محيطهم، أسير نوع معيّن ومحدد من التأويل الديني، هو التأويل الشعبوي المتطرف، فعلى هؤلاء المثقفين السلام.
لقد انهزموا، إما لأسباب ذاتية أو موضوعية أو لكليهما معاً. فهل كان هؤلاء صادقين حقاً، فيما حلموا به وحملوه من أفكار، أم كانت هذه الأفكار، مجرد ألبسة، مهما اختلفت ألوانها ومقاساتها، فإن الجسد، تحتها، واحد، وإنّ حقيقته لواحدة أيضاً؟
لو كانوا طوّروا من أفكارهم تلك، لكان هذا مفهوماً. لو كانوا صمدوا أمام [ آمال الأفكار وتحوّلاتها وتقلّباتها ] كما يقول ساباتو، وكما هو خليق بالمثقف الإنساني، ذي المرجعيات الأرضية، لكان جيداً ويستحق الإشادة. فلا أفكار خالدة، بما هي من عند البشر التاريخيين، ولكنهم انقلبوا تماماً عليها، وذهبوا إلى الضد، بذات العقل اللاهوتي، الذي يُقسّم العالم إلى خير خالص وشر خالص.
إنهم من حَمَلة العقل التبسيطي الإلغائي الإقصائي الذي لا يقوى إلا على الثنائيات : إما مع أو ضد. ولهذا تراهم، في لباسهم الجديد، كما كانوا في لباسهم القديم : لا يحتملون الاختلاف، ولا الشكّ ولا مساءلة الذات أو الموضوع. فهذه تقاليد لم تنبع من أرضهم، وإنما هي مستوردة، ولا تناسب بيئتهم ولا عقلوهم التي تشرّبت بأنساغ أو نسوغ هذه البيئة.
يرقب المثقف الدنيوي كل ذلك، ويغفر أحياناً، ويغضب في أحايين. فهو يعرف أنّ الحكاية برمتها، أكبر وأخطر من آحاد أفراد. فهي منظومة متكاملة شاملة، تحتاج إلى تفكيك، وإلى جهد هائل الفداحة، لن يقدر عليه فرد بعينه، مهما أُوتي من قدرات، ولا حتى جيل. إنها حكاية أجيال، فيما لو بدأنا من ضفاف هذه اللحظة. لذا، فالعقل يقول أيضاً بأنهم، هؤلاء المثقفين، معذورون ! إنّ الموجة أعلى من قاماتهم بكثير، وإن التيار لأقوى من أجسادهم الهشة الضعيفة.
لكن، في لحظات أخرى، يأخذهُ التفكيرُ على هذا النحو : ألم يكن من المعقول، أن يحتفظوا برؤاهم لأنفسهم، وألا يتخلوا عن علمانيتهم، على الأخص لأنهم يعيشون زمن الجنون اللاهوتي وانفلات هذا الجنون ! كلا لا يتعامل المثقف الدنيوي مع العلمانية بوصفها ديناً، فهذه نقيصة لا تغتفر. إذ لا مقدسات عند المثقف الدنيوي، ولو كانت له مقدسات، هو الخارج على كل المقدسات، لما استحق ذلك اللقب. إنه أبداً، لا يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، بل يجهد كي يتعلّم ويستبطن ويفهم، كل يوم، مثل تلميذ صغير فقير، وغالباً ما يخرج من دأبه هذا، بخفي حنين، ومع ذلك لا يبتئس. فالحقيقة أكبر من عقل بشري واحد، إذ هي محيط متشعب، يكون محظوظاً لو خرج منه بسمكة صغيرة واحدة.
إنه يتعامل مع العالم من حوله، وهو يعرف حدوده تماماً. تماماً كما يليق بكائن فان محدود، عابر على هذه الأرض عبور ظل أو طيف.
يتعارك مع نفسه ومع أفكاره، قبل أن يخرج إلى الناس. يعرف أنّ عليه الاجتهاد، فإن أصاب، له أجران، وإن أخطأ له أجر، ولا يبتغي أكثر من هذا تكريماً. نسبي من النسبية وشكوكي من الشك، ولا شيء أبعد. لكنه في جميع الأحوال، أو معظمها، صادق فيما يقول ويكتب ويساجل، صادق مع نفسه أولاً، ومع مجتمعه أخيراً. ولذا لا يحتاج إلى مكياج ولا أقنعة ولا مناورة ولا مداورة، فهو مثقف لا بهلوان أو مهرّج.
فهل يستطيع مجتمعه احتماله وهو على هذا القبيل؟ وهل تستطيع عائلته احتماله وهو على هذا الغرار؟ وهل تستطيع حتى زوجته والأبناء احتماله وهو على هذا النحو؟
إنه يلاقي المتاعب والمصاعب أينما ذهب. فهو وحيداً يواجه مجتمعاً بأكمله : أفكاره quot; الغريبة quot; تواجه منظومة فكرية ونفسية واجتماعية واقتصادية كاملة متكاملة. هو يريد أن يخلخل هذه المنظومة، وهي ترد عليه بمنتهى العنف والقسوة، إن لم يكن في وجهه ففي ظهره. وفي جميع الأحوال، فهو الخاسر، لأنه فرد. فهل ينكسر المثقف الدنيوي، وهل يستسلم كما فعلها آخرون عديدون؟
كلا لا يحمل المثقف الدنيوي رسالة لأناس ضالين. فهو بعيد عن هذا النمط المرعب من التفكير. لكنه يحمل حرصاً على معنى حياته ومعنى حياة من حوله : يريد لهم حياة أفضل من الموت، مفتوحة على العصر، وبنت عصرها، لا مرهونة بسلاسل الماضي البعيد غير الصالح للحياة.
وعليه، فلا محل للهزيمة عند المثقف الدنيوي، الواثق من بعض صواب أفكاره لا كلها. ولذا لا مفر من أن يواصل طريقه، ما همّ لو كان وحيداً وغريباً، لأنّ الطوبى الأرضية، للوحيدين والغرباء.
هكذا تمضي الأمور أحياناً، وفي أخرى، ييأس المثقف الدنيوي ويُحبط، فيفكّر جدياً في الصمت أو الهجرة، إنما تعوزه دائماً، مع هاتين، الشروط والأسباب !