الفضيحة الأخيرة لنظام البعث السوري في تسهيل إستخدام الأمريكان لزنازين فرع فلسطين المرقم (235) للمخابرات كمكان للتعذيب والسلخ للأجساد البشرية لم تشكل مفاجأة أو تحولا ستراتيجيا ولا أي شيء آخر؟ بل هي مجرد تأكيد فضائحي وبصوت عالي عما يجري من فظائع إنسانية رهيبة تقع خلف أسوار نظام دموي إرهابي شمولي لم يمتلك يوما أي سبب من أسباب البقاء و (الصمود والتصدي) سوى أسلوب وطريقة القمع الشامل والمعروف للجميع في العالم !! ولكنه لسبب من الأسباب التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم مسكوت عنه و بسادية غريبة وأنانية دولية مفرطة، وفروع المخابرات السورية السرية والعلنية المفضوحة أو التي لا زالت تحت أسوار الستر والكتمان كانت ولا تزال عدة النظام السوري القتالية الوحيدة للبقاء وللصراع والنزال، فهدف النظام السوري الستراتيجي الوحيد هو كسر إرادة الشعب السوري وإستمرار الإحتلال العائلي الطائفي الناهب المريض لمقدراته وتوارث تلك المهمة المقدسة بين أجيال (القبيلة الذهبية) من مماليك الحكم الذين توارثوها وحولوها لحكم عضوض يريدون أن لا ينتهي حتى يتم تسليم الراية للمهدي المنتظر؟؟،
وإذا كان أنين أحرار سوريا والعرب من لبنانيين وفلسطينيين لا يصل لآذان أهل النفاق الدولي فإن لي شخصيا تجربة متواضعة حدثت لي منذ سنوات في سجون النظام السوري الرهيبة تؤكد مدى وحشية وقسوة ذلك النظام في التعامل مع شعبه ومع الآخرين من الذين تضعهم الأقدار في طريقه؟ لقد تحدثت التقارير الدولية عن زنازين بحجم التوابيت يقبع فيها المعتقلون لشهور ولربما سنوات! وقد عشت شخصيا تجربة العيش داخل إحدى تلك الزنازين لمدة شهر كامل خلال الفترة الواقعة بين 16 آب/ أغسطس و 15 أيلول/ سبتمبر 1984 وفي الفرع الخارجي القديم المرقم (279) والواقع في حي الروضة بالقرب من السفارة التركية والأمريكية! وكانت التهمة الموجهة لي وقتها بتدبير من مكتب شؤون العراق (البعث العراقي في سوريا) هي العمالة لصالح النظام العراقي؟؟؟؟؟ وهي تهمة متهافتة وسخيفة ولكنها تقذف بمن يتهم بها خلف الشمس؟ وقد عايشت خلال تلك الفترة كل صنوف التعذيب والوحشية وتعايشت مع الأغبياء من العناصر الريفية والأمية التي تسير المعتقل وتمارس بدائيتها المتوحشة فوق أجساد المعتقلين؟ منذ ذلك الوقت وكنت شابا صغيرا محدود التجربة وسليم النوايا أدركت مدى تفاهة عالمنا العربي الذي تحكمه مثل تلك النماذج !! ووقتها فقط عرفت سر التفوق الإسرائيلي ونصرهم الدائم علينا، والسجن تجربة مرعبة ومروعة ولكن ماذا ستكون تلك التجربة لو أنك قضيت الشهور والليالي في زنزانات توابيتية طولها متر ونصف وعرضها متر واحد فقط لا غير؟ وبدون غطاء ولا فراش ولا مخدة ولا أي شيء من ترف الحياة الدنيا؟ ولا تعرف الليل من النهار إلا من خلال الخروج لحفلات التعذيب السادية حيث ترى الساعة المعلقة على الحائط وهي مزينة بصورة الرئيس القائد الفريق حافظ الأسد (وقتذاك)!!، إنها ذكريات مريرة لا زلت أحتفظ في ذاكرتي النشطة والحديدية بكل تفاصيلها المرعبة و المرتسمة أمامي حتى كأنها حدثت بالأمس القريب وليس قبل أكثر 22 عاما بالتمام والكمال؟.
سياحة في قبور مخابرات دمشق!
في صيف عام 1984 وكنت قد مكثت في دمشق زمنا يسيرا منذ 8 كانون الثاني/ يناير حيث جئت مبعدا ومرحلا من إحدى الدول العربية بتهمة النشاط المعادي لنظام البعث العراقي ! قررت السفر برا نحو مدينة إستانبول التركية لمحاولة إستكشاف آفاق الحصول على لجوء ما في أوروبا؟ كانت عدتي بسيطة شنطة واحدة (حمراء اللون) إشتريتها من أسواق (المرجة) ومبلغ ألف دولار حصلت عليه بطريق المساعدة من الأهل والأصدقاء، وكنت قد قضيت الشهور السبعة المنصرمة من إقامتي الدمشقية بالعمل مع جماعات المعارضة العراقية في الجانب الإعلامي وكانت تجربة مؤلمة وفاشلة وطافحة بالألم (ولذلك قصة أخرى)!، قررت السفر لتركيا بعد أن إستطعت الحصول على فيزا رغم جواز سفري العراقي المنتهية صلاحيته وحيث زورت التاريخ بيدي! وسافرت بالباص السياحي حيث إنطلقنا في المساء لنتوقف فجرا في حلب ثم نتابع طريقنا نحو منفذ (باب السلامة) الحدودي، وفجأة أطل علينا ضابط برتبة نقيب له كرش عظيم وشعر كثيف طلب مني النزول ومعي حقيبة سفري الحمراء! لأمر هام قيل لي أنه لن يستغرق سوى دقائق كما قال!! وطلب من سائق الباص الرحيل!! أخذني النقيب بسيارته الخاصة راجعا لمسافة 40 كيلومترا صوب حلب! وهناك سلمني بكل هدوء نحو فرع من فروع المخابرات السورية يقع في حي سكني، وتلقفتني العناصر بترحابها المعهود!! وكانت حفلة ضرب وإستقبال لم أعرف أسبابها ولا دواعيها! ثم رميت في زنزانة لا يمكن إغلاق بابها إلا تحت وضعية (جلوس القرفصاء)!! وكانت مليئة وعابرة بكل حشرات الأمة العربية المناضلة من (الصراصير) وحتى القمل ومشتقاته!! بعد برهة وفي الظهيرة أخرجوني لساحة واسعة كانت غاصة بالمعتقلين من الشباب السوري وقد منع علينا الكلام أو تبادل الهمسات وأمروني بالمشاركة في تفريغ الطعام القادم من مكان ما وهناك إلتقيت في حوار سريع مع شاب سوري قال لي أنه مهندس ومعتقل بتهمة الإنتماء لتنظيم الإخوان المسلمين!! وهو هناك منذ شهور!! وتعوذت بالله من مصيري المجهول! أعادوني للزنزانة القبر تحت الصفع والركل والإهانة ثم جاءني في المساء ضابط مخابرات قال لي بأنه لا يعرف التهمة الموجهة لي وكل ما يعرفه أنني مطلوب لجهاز المخابرات في دمشق! وهناك سأعرف كل الموضوع؟ وقد تكرم علي ذلك الضابط بجعل باب زنزانتي القبر مفتوحة لكي أستطيع النوم بمد رجلي خارجها!! وهو كرم لو تعلمون عظيم في مثل تلك الظروف!!.
في الصباح خصصوا لي عربة جيب مع سائقها ومرافق مسلح بالكامل وقيدوني بالأصفاد ورموني في ذلك الجيب في طريق العودة لدمشق لتسليمي للمخابرات هناك بعد أن صادروا من حقيبتي بعض الأشياء وطلبوا مني الصمت وإلا... فيما لم يتحرشوا بالألف دولار التي كانت بحوزتي رغم أن أحدهم شتمني بالقول : (شو أخو شر... عندك دولارات ولاه.. يلعن دينك شو عرص)!!... المهم أنني كنت طيلة الطريق نحو دمشق مكبلا ودون غذاء ولا ماء حتى وصلنا في المساء للفرع الخارجي (279) والذي أعرفه لأنه الفرع الذي يسلم موافقات السفر للأجانب والعرب القاطنين في دمشق، أنزلوني بطريقة الكرم العربي المعروفة بالصفع والركل ثم حشروا رأسي في كيس من القماش وأدخلوني لزنزانة مظلمة طولها متر ونصف وعرضها متر تقع ضمن صف من الزنازين بلغت العشر عرفتها فيما بعد عن طريق رحلة الذهاب والعذاب اليومية للمراحيض!!، ومن غريب الصدف أنه في إحدى تلك الزنازين كان يقيم صديقي منذ أيام الدراسة في جامعة البصرة العراقية الشاعر والمحقق التراثي المعروف الأخ (جمال جمعة)!! وبتهمة سخيفة مشابهة لتهمتي رغم أنه هرب من العراق لرفضه الإنضمام لحزب البعث البائد؟.
بعد ساعات من إقباري في تلك المقبرة النتنة جاء أحد العناصر ووضع العصابة على عيوني و إقتادني لضابط التحقيق وكان وقتها (العميد عدنان)!! وبعد أسئلة سريعة طلب مني الجلوس وتكرم بفتح عصابة العين وطلب مني قراءة التقرير المقدم ضدي من مكتب شؤون العراق وبتوقيع الرفيق (فوزي الراوي) عضو القيادة القومية حتى يومنا هذا!! وكان توقيعه بحبر أخضر! وكان التقرير يتهمني بالجاسوسية وتقديم المعلومات للنظام العراقي وبتجنيد العناصر وبتوفير جوازات السفر!! رغم أن جوازي مزور؟ وسلسلة طويلة من التهم التي (تودي في ستين داهية)!! وكنت في حالة دهشة كاملة وصلت لحد البلاهة! والطريف أن ذلك التقرير الكيدي يوصي بإبعادي للعراق؟؟ فكيف أكون جاسوسا ويكافئوني بالترحيل للنظام الذي أرسلني؟ لقد كانت فترة عبثية لعبت بها القوى السياسية العراقية لعبتها الصبيانية التي تثبت مدى خوائها وسقمها؟ وأشهد لله من أن العميد عدنان كان كريما معي وأوقف كل عمليات التعذيب ولكنه لم يوقف الإهانة وملحقاتها من الممارسات المتعلقة بسحق نفسية المعتقلين !، وقد بدا لي وقتها من أن (العميد) قد إقتنع ببراءتي وبكيدية التقرير البعثي ولكنه إستطرد بالقول أنه رغم إقتناعه ببراءتي فإنه لا يملك سلطة إطلاق سراحي بل ينتظر الرد النهائي من المخابرات العامة وهو رد إستغرق أكثر من أسبوعين عايشت خلالها تلك الحياة الرهيبة وإستمعت لأصوات التعذيب الرهيبة وعانيت من صفاقة ودناءة الجلادين والجلاوزة من العناصر الريفية وتمتعهم بتعذيب البشر !، وكانت أصوات وتأوهات المعتقلين والذين تحت التعذيب تكسر سكون الليل وتشكل الخلفية الموسيقية المسائية المعتادة لسيناريو المعتقل.
إعدام مصري؟
ذات ليلة إستيقظت وأنا في وضعية نوم القرفصاء اليومية على أصوات صراخ وجلبة عالية مجاورة لزنزانتي إتضح لي أنها ناجمة عن حفلة تعذيب وضرب عنيفة للغاية بحق معتقل مصري يشتبه في تجسسه لصالح إسرائيل!! وقد تحدث الجلادون بقلق عن موته تحت التعذيب قبل إرساله لتحقيق موسع آخر في المخابرات العامة؟ وقد إرتفع الصراخ فيما بينهم حول من تسبب في قتله؟ ولكنه قد قتل على كل حال؟ ودون محاكمة وبمجرد تقرير قد يكون كيديا؟ ومن هنا تتبين قيمة الحياة البشرية لدى جلاوزة النظام السوري؟؟.
عذاب المراحيض !.
كان الذهاب لقضاء الحاجة الطبيعية اليومية في المراحيض لحظات حقيقية من العذاب المهين للشخصية الإنسانية، فصباح كل يوم كان يخصص لكل معتقل دقيقة واحدة فقط للتغوط والتبول والغسيل و أمام أنظار الجلادين الذين يتلذذون في سادية غريبة في الضرب بالعصا المطاطية الغليظة على رأس المعتقل وهو يقضي حاجته وهو مطأطأ الرأس عند إخراجه من زنزانته لكي لا يرى المعتقلين في الزنازين الأخرى؟ أما من يعاني من الإسهال أو المشاكل المعوية الأخرى فإن مصيره أسود وحالته تثير الشفقة. فتصوروا أحوال معتقلين آخرين لا تعرف أحوالهم في سجون أشد سرية وتشددا وعذابا؟.
غذاء... و حشرات؟
كان الغذاء اليومي في غاية الرداءة ممثلا في شوربة ساخنة لا تحمل من مواصفات الشوربة أي شيء؟ والخبز كان أشبه بالصخر المخلوط بالتراب، مع حبات من (البطاطا) المعفنة التي لا يمكن وصفها؟ كانت وجبة يومية مخصصة للحشرات قولا وفعلا؟.
الإفراج المعجزة؟
بعد أربعة أسابيع من العذاب والترقب وإنتظار الأوامر من المخابرات العامة وصل أمر الإفراج المنتظر؟ وهو يوم لو تعلمون عظيم لأنه خروج من عالم الأموات أو عوالم النسيان والموت البطيء نحو الحرية ومعانقة نور الشمس من جديد وهي النعمة المفقودة لآلاف من الذين غيبهم نظام الموت البعثي السوري خلف أسوار مقابره السجنية الرهيبة، فقد صادف يوم إطلاق سراحي يوم (عرفة) لعام 1984 وتسنى لي لأول مرة منذ أربعة أسابيع قاسية تخيل حلم النوم على مخدة أو وسادة!! وتحقيق حلم النوم متمددا بصورة كاملة؟ فضلا عن إمكانية حلق شعر ذقني الذي إستطال بصورة مرعبة وكأن غيابي قد إمتد لدهور؟ وقبل أن أغادر المكان نهائيا ألقيت نظرة على غرفة التعذيب التي هي الممر والمدخل للزنازين!! وعاينت (دولاب الهوا) أي تلك العجلة المطاطية التي يحشر فيها المعتقل ثم يشبع ضربا بطريقة تفنن بها حملة الرسالة البعثية الخالدة؟ كما عاينت السلاسل الحديدية ومعدات (الفلقة)!! وغيرها من وسائل التعذيب العربي الإشتراكي المناضل قبل أن يلتقيني قائد المعتقل محذرا إياي من مغبة البوح أو الثرثرة عما شاهدت وسمعت ومقترحا على العمل معهم بصفة وكيل !! أي أنهم قد إقترحوا أن أكون جاسوسا لهم أنقل لهم أخبار المعارضة العراقية أو أية أخبار ومعلومات قد تمر أمامي؟؟ وقد حددوا لي موعدا مع النقيب (عارف) وقتذاك لإكمال آلية التجنيد ودخول عالم المخابرات السورية الفسيح من خلال (الإرتزاق الرخيص)!! وقد وعدتهم خيرا!! وبأنني سأكون عند حسن الظن؟ قبل أن أقرر الهروب التام من جمهورية البعث السعيدة ومنذ تلك الأيام لم أر الشام وسوف لن أطأها ما دام في البعث عرق ينبض، وحتما سأزور الشام الحرة في القريب العاجل؟... إنها جانب بسيط من ذكريات معقدة ومتداخلة وعبر مراحل عديدة وحالات مخاض تاريخية متواصلة لا تؤكد سوى على أن ليل الظلم قصير مهما طالت أيامه، وأن دولة المخابرات السورية بكل رعبها وتاريخها الحافل ما هي إلا تابوت متحجر سترحل نحو العدم لا محالة وإن كل خطوات التعويم ومحاولة إعادة التأهيل لن تنجح لأن الظلم مرتعه وخيم أولا، ولأن تيار التاريخ الحر والصاعق لا يجامل القتلة مهما تفننوا في النفاق والإنبطاح وسحق الأحرار، وسيكون لأحرار الشام صولاتهم القادمة.. ذلك هو وعد الحق، وتلك هي سنة التاريخ والخالق الكريم.. ولن تجدوا لسنته تبديلا.
[email protected]
التعليقات