بعد سقوط نظام صدام حسين أدرك العراقيون، بحس شعبي عفوي، أن هناك بوادر تفرقة داخلية تتربص بهم. ولأنهم شموا رائحة الخطر المحدق ببلادهم، فأنهم بادروا، ومنذ الأيام الأولى، إلى تنظيم تظاهرات، خصوصا في العاصمة بغداد المهددة أكثر من غيرها بحدوث النزاعات بسبب كونها عينة نموذجية للموزائيك العراقي. في تلك التظاهرات رددوا أهزوجة واحدة هي: quot;أخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما أنبيعهquot;. لم يقولوا هذا quot;الدينquot;، ولم يقولوا هذا quot;المذهبquot;، إنما قالوا هذا quot;الوطنquot;، لأنهم أدركوا، وكانوا يعبرون عن نضج الشارع العراقي، أن الدين ليس في خطر، ولا المذاهب، إنما الوطن، أي بمعنى أخر، الخلافات السياسية.

تلك الأهزوجة التي انطلقت من quot;القاعquot;، وضعت، في وقت مبكر، الكرة في ملعب السياسية والسياسيين، و كانت إشارة quot;عراقيةquot; وطنية موجهة إلى النخب quot;السياسيةquot;، سواء كانوا أفرادها بزي رجال دين أو لا، مفادها أن الصراع، إذا ما نشب، فانه سينشب لأسباب ولدوافع سياسية، وليست مذهبية.

الأيام التي أعقبت تلك التظاهرات، وحتى هذه اللحظة، أثبتت، فعلا، أن الصراع الدموي الدائر في العراق هو، صراع سياسي بامتياز، وإن تلبس بلبوس المذهب، أو الطائفة. القضايا الأكثر التهابا والأكثر خطورة والأكثر صعوبة على الحل والأكثر تسببا في إراقة الدماء، خلال السنوات الثلاث الماضية، ليست لها علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، بفقه جعفر الصادق أو فقه أبي حنيفة. ما علاقة الفقه الشيعي والسني، توافقا واختلافا، بقضايا مثل، الفيدرالية الكوردية وأقاليم الوسط والجنوب، وقانون اجتثاث البعث، وحل الجيش وبعض الوزارات، وجدولة انسحاب القوات الأجنبية، وهوية مدينة كركوك، وتقاسم الثروات ؟ بل ما علاقة الدين الإسلامي بالمحاصصة الطائفية؟

وما علاقة الاختلاف المذهبي في الصراع الدموي الذي نشب، وقد ينشب بين التيار الصدري والمجلس الأعلى وحزب الفضيلة والشيخية والصرخيين، وبحصار النجف، وبالجدل الحاد بين المجلس وحزب الدعوة على من يكون رئيسا للوزراء، وبمعركة الديوانية الأخيرة مع الشرطة هناك؟ أليست هذه الأطراف كلها تنتمي إلى نفس المذهب الشيعي ؟
وما علاقة الاختلاف المذهبي بالصراع الدموي القائم بين جبهة التوافق وجيش محمد والجيش الإسلامي وحلف المطيبين والطائفة المنصورة، وبقية الجماعات المسلحة في المنطقة الغربية، ومؤتمر عشائر كركوك المطالب بالعفو عن صدام، وعشائر quot;صحوة الانبارquot;، ومجلس شورى المجاهدين ؟ أليسوا كلهم سنة ؟
وما علاقة نصرة المذهب أو الدين بوجود مافيات تهريب النفط، وعصابات الجريمة المنظمة، وعمليات الخطف والتسليب، وقطع الطرق الخارجية من قبل عشائر سنية وشيعية ؟

هل سمعنا خلال السنوات الثلاث الداميات أن المرجع الشيعي السيستاني انتقد، تصريحا أو تلميحا، الفقه السني ؟ وهل سمعنا مرجع سني، سواء في هيئة علماء المسلمين أو غيرها، من انتقد، تصريحا أو تلميحا، الفقه الشيعي ؟
لو ترك الأمر للمراجع الروحية، أي لمرجعية السيستاني ومن يناظرها من مرجعية سنية، وما يناظرهما من مرجعيات مسيحية ومندائية وأيزيدية، لما كانت أقوال رجال هذه المرجعيات ونتائج لقائهم سوى واحدة، لا غير:quot; لكم دينكم أو مذهبكم، ولي ديني أو مذهبي واختلاف المذهب والدين لا يفسد لود العراقيين قضية، ودم العراقيين حرام، إن لم يكن بسبب انتمائهم لوطن واحد، فلأنهم من نسل آدم وحواء. وهذا الكلام ستقوله وستردده المراجع الدينية العراقية، سواء اجتمعت في العراق أو في المملكة العربية السعودية أو في أي مكان أخر. هل رأينا رجل دين واحد في الدنيا كلها من يحلل دم البشر !
ولهذا، فأننا لا نجد، مهما كان نبل الهدف وشرف المقصد، جدوى من اجتماع المراجع الدينية في مكة. وهناك ثلاثة أسباب تدفعنا لقول ذلك. أولها: إن عامة العراقيين، أو ما يسمى بالشارع العراقي، يعي جيدا خطورة التحارب الطائفي، ويتمتع بحصانة ضد التفرقة الطائفية، لكن شرط أن يترك هذا الشارع لوحده، بعيدا عن تحريض السياسيين والحسابات السياسية.
والسبب الثاني هو، أن المراجع الدينية يجب أن تكون بمثابة quot;الاحتياط الاستراتيجيquot; الأخير الذي يتم اللجوء إليه لحل قضايا يومية سياسية صرف، خصوصا أن حل هذه القضايا لم يدخل بعد في نفق مسدود، تماما، وما يزال هناك متسع أمام السياسيين لحلها، هذا إذا كانت لديهم رغبة حقيقية لحلها.
والسبب الثالث هو، كما قلنا توا، أن الصراع الدائر في العراق ليس صراعا بين مراجع المذاهب الدينية. الصراع هو صراع سياسي، يديره سياسيون بلباس رجال دين، أو لنقل، يديره رجال دين، لكنهم قبلوا أن يؤدوا أدوارا سياسية.
سماحة السيد عبد العزيز الحكيم وسماحة السيد مقتدى الصدر وسماحة الشيخ اليعقوبي هم رجال دين أجلاء، بدون أدنى شك، لكنهم يمارسون (توجيها أو أشرافا أو مشاركة) النشاط السياسي. والكيانات التابعة لهم، كالمجلس الأعلى، وجيش المهدي، وحزب الفضيلة، هي كيانات سياسية، ولها تمثيل في البرلمان.
والشيخ حارث الضاري وصحبه في هيئة علماء المسلمين هم، رجال دين فضلاء، لا يشك احد ذرة واحدة في حرصهم على دينهم، لكنهم يمارسون (توجيها أو أشرافا) الفعل السياسي.
وهذه الرموز هي التي يجب أن تجتمع لإيجاد حل للصراع العراقي، ولكن بصفتهم السياسية، أولا وأخيرا. وهم، إن فعلوا ذلك فلهم أسوة حسنة بالذين اجتمعوا قبلهم في مؤتمر الطائف.

مؤتمر الطائف الذي كان مسك ختام الصراع اللبناني اللبناني، قبل سنوات، إنما عقد على هذا الأساس. وقد نجح مؤتمر الطائف، بالضبط، لأنه ناقش جميع القضايا السياسية، ولأن جميع الفرقاء اللبنانيين حضروه. صحيح، أنهم حضروا كمسلمين ومسيحيين وشيعة وسنة ودروز، لكنهم حضروا كسياسيين، والقضايا التي ناقشوها كانت قضايا سياسية، أولا وأخيرا.
ماذا بمقدور مؤتمر مكة المزمع عقده للمراجع الدينية العراقية أن يفعل أكثر مما فعله مؤتمر القاهرة بمبادرة من الجامعة العربية ؟ وماذا بمقدوره أن يفعل أكثر مما فعلته مؤتمرات المصالحة التي جرت في بغداد ؟
يقول المثل: quot;إذا أردت أن تطاع، فسل ما يستطاعquot;. والوضع العراقي الحالي، بكل تعقيداته وتشعباته والمؤثرات الإقليمية والدولية التي تؤثر فيه، لم يعد مجرد فتنة مذهبية استيقظت من نومها، وبالمستطاع إعادتها إلى سرير نومها بإشارة أو بتوصية أو بموعظة من هذا أو ذاك من رجال الدين، مهما علت المنزلة التي يحتلها رجل الدين الواعظ.
لقد طالب المرجع السيستاني حتى بح صوته، بعدم جواز إنزال القصاص العشوائي بأي عراقي، بما في ذلك رجال الحكم السابق، إلا من قبل محاكم مختصة. وطالب بعدم زج أسم المرجعية في الصراعات السياسية الدائرة. ونهى، ثم نهى، ثم نهى عن اغتيال الناس على الشبهة، وقال إن لم يردعكم دين فليردعكم شعور إنساني. وكرر مرات ومرات بأن الحكومة وحدها هي السلطة المخولة بتسيير شؤون العباد والبلاد. وناشد العراقيين، كل العراقيين، أن يتوحدوا.
ومثل السيد السيستاني، فأن الشيخ حارث الضاري ومن معه في هيئة علماء المسلمين ناشدوا مرارا العراقيين، أو لنقل ناشدوا أتباعهم ومريديهم بعدم إلحاق الأذى بغيرهم من أبناء المذاهب والطوائف الأخرى. فماذا كانت نتيجة تلك الوصايا كلها ؟ لا شيء سوى زيادة أعداد الضحايا، حتى والناس تعيش شهر رمضان.

مرة أخرى نقول أن القضية العراقية هي قضية سياسية. وليس من صالح الدين ولا المذاهب، ولا من مصلحة الناس ولا البلاد، أن يتم زج رجال الدين في آتون هذا الصراع السياسي.
إقحام المراجع الدينية في معمعمة الاجتماعات والمؤتمرات السياسية، ومهما كانت النية صادقه وراء ذلك، سيزيد من خيبات العراقيين ، ويكثر من ألامهم، ويدفعهم إلى حافة اليأس.

ماذا سيحدث لو اجتمعت المرجعيات في مكة وفشلت، لا سمح الله، في إيجاد حل للمعضلة العراقية القائمة، وفي وقف نزيف الدم ؟ إلا يكون فشلها وبالا جديدا على العراقيين، وسيفقدهم، ربما، الأمل الأخير في الشفاء، على طريقة quot;إذا مرضنا يداوينا الطبيب- إذا مرض الطبيب من يداويه ؟quot;