التأجيج الطائفي الذي بدأت السنته تحرق الناس وشفراته تذبحهم في العراق، مع أنهم على دين واحد ولهم نبي واحد وكعبه واحدة يتوجهون اليها في صلاتهم، وأخيراً فأنهم يعبدون آلهاً واحد، حرباً تمزق المجتمع ومرضاً فتاكا يضعفهم، غير أن للفتنة الطائفية أسبابها ومبرراتها، كما لها ناراً تحت الرماد، يتم النفخ بها لتظهر جمراتها بين الحين والحين لأغراض ليس من بينها واحدة سماوية أو دينية أو فقهية، انما جمنيعها تتعلق بأفكار بشرية واجتهادات أنسانية وأغراض دنيوية.
التأجيج الطائفي الذي يراد اخماده في العراق بالنظر لكونه يتلازم مع الحرب التي تشنها مجموعات تكفيرية تجد في كل العراقيين مشاريع للموت بسبب تكفيرهم وربما عمالتهم للأجنبي، بالأضافة الى تزامن عمليات الموت اليومي مع مجموعات أتخذت من الدين لبوساً وستاراً تتبرقع بت للوصول الى غاياتها السياسية.
ثمة مجموعات أتخذت من أسماء دينية أسماً لنشاطها السياسي، وثمة مجموعات تريد أن يكون لها مكان ضمن كعكة العراق السائبة، وثمة شخصيات تريد أن يكون لها موقعاً متميزاً يليق بها ومنصباً رفيعاً في زمن الخبط العشوائي، وهذه جميعها تساهم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في تأجيج الفتنة الطائفية بين العراقيين.
معنى الفِتْنة الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّدِ، وفي الصحاح: إذا أَدخلته النار لتنظر ما جَوْدَتُه، ودينار مَفْتُون. والفَتْنُ: الإِحْراقُ، ومن هذا قوله عز وجل: يومَ هم على النارِ يُفْتَنُونَ؛ أَي يُحْرَقون بالنار. ويسمى الصائغ الفَتَّان، ( لسان العرب )، قد تبدو للوهلة الأولى العملية شائكة ومعقدة والشروخ كبيرة وعميقة والحقيقة غير ذلك، قد يزعم بعض ان الشرخ كبير والطائفية تعم العراق والحقيقة غير ذلك، فالنزاع الطائفي يتناقض مع المنطق الأجتماعي ويتعارض قطعاً مع مفهوم الدين الواحد والعقيدة الواحدة، فالنزاع سياسي توظف من خلاله الأحزاب والشخصيات المتنافرة والمتخاصمة المذاهب كدروع لتغطية حربها البعيدة عن المنطق والمسؤولية الوطنية، في ظرف من أصعب الظروف التي يمر بها العراق، فلا آثر لأي احتقان أو خلاف بين الناس مع وجود التعددية المذهبية، ومع أن السلطة البائدة اعتمدت على الفعل الطائفي وحاولت أذكاءه بين الناس، الا أن حركة الحياة العراقية لم تتغلب عليها هذه الطائفية المريرة، بالرغم من مرارتها وأعتبارها الأساس الذي ترتكز السلطة الصدامية عليه في تعاملها وخصوصياتها، والعراق بلد متعدد القوميات ومتعدد الأديان ولكنه منسجم أجتماعياً بالرغم من المخططات التي عملت السلطة الدكتاتورية بنهجها في العراق بقصد تمزيق النسيج الأجتماعي .
ولايمكن للنزاع الطائفي مهما كانت الجهة التي تروج له وتدعو له وتغذيه وتعمل لنشره أن يتخطى المنطق والعلاقات الأجتماعية السائدة، بدليل إن الطائفية المقيتة غير منتشرة بين أوساط المثقفين، وغير منتشرة بين أوساط الأحزاب العلمانية، وغير منتشرة في المجتمع الكوردستاني، كما لم تستطع كل السياسات القمعية التي مارستها شخصيات سياسية أن تنشر المرض الطائفي بالرغم من ممارستها السيئة وتمسكها بالنهج الطائفي المقيت، في حين تحاول جهات موجودة على الساحة العراقية ومن خلال شخصيات بدأت بترويج الطائفية والأعتقاد بأنها أستطاعت تكريس الطائفية وأعتبارها أمراً واقعاً لابد منه، وتحاول بناء مستقبلها ووجودها على هذا الأساس.
وأذا وضعنا جميع المذاهب والأديان أمام منطق الحق والباطل فليس هناك خيار وسط بينهما، وستقف بالنتيجة جميع المذاهب والأديان في جانب الحق منطقياً أذ لايقبل عقلاً إن يكون مذهب من المذاهب مع الباطل، وأن جميع المذاهب الأسلامية تتفق كلياً على الأسس والمباديء الأساسية للدين الأسلامي، وأما الاعتبارات والمقاييس الفرعية فيمكن الأختلاف عليها أو من خلالها ولكنها بالنتيجة تؤدي الى خندق واحد لايمكن تجاوزه، ويمكن إن تؤدي تلك الأختلافات الفرعية الى البحث والأستقصاء والأفتاء والتطوير من أجل التوصل الى الخطوط الأقرب الى حقيقة الدين.
ومن الحقائق العراقية أن يتم تلبيس الانسان للمذهب وفقاً لمنطقة ولادته الجغرافية وتابعية اهله، فأذا كان مولود في مناطق الجنوب العراقي والفرات الأوسط ولعائلة شيعية كان شيعياً ( جعفرياً ) بالفطرة، وأن ولــد في مناطق أخرى كان سنياً بالفطرة أيضاً وفق مذهب أهله، والعكس صحيح ولاخيار لديه ولا ينتظر احد موافقته حتى وأن بلغ سن الرشد، وعلى الأغلب والأكثر أن يبلغ الكثير من الناس سن الرشد دون أن يعوا مسألة الخلاف بين المذاهب الخمسة الجعفري والشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي، بل ودون إن يعوا أسس تلك المذاهب، والقلة من المتعلمين والمتنورين دينياً وثقافياً من يتعرف على أسس المذاهب وأركانها والخلاف بينها ويختار المذهب الذي يعتقد بصلاحه دون غيره مع أنها جميعها تصب في مجرى واحد.
ليس أكثر من رجال الدين من يهتم بمسألة الخلاف بين المذاهب، ويحاول كل طرف منهم أظهار السلبيات التي يراها من وجهة نظره في المذهب الآخر، وتأسيساً على أن يكون رجال الدين فئة من الناس تستند في حياتها على الفقه وطريق البحث الديني متفرغة لهذه الطريقة في الحياة فأنها تحاول أن تتعمق في مسألة الخلافات بين المذاهب، وتبرز حالاتها السلبية .
وأذ تجتمع في مكة المكرمة شخصيات دينية من كل المذاهب الموجودة في العراق، يتوجب عليها أن لاتتفق على خطوط عمل وتعقد الآمال على أجتماعات مقبلة، وأنما عليها الالتزام في حفظ دماء الناس وأرواحهم، وعليهم السعي لأزالة هذا الأحتقان الذي يمزق وحدة نسيج العراق، وهم في هذا الموقف مسؤولين أمام الله قبل التاريخ والشعب، وهم بهذا الالتزام يثبتون إن الفتنة تنبعث رائحتها من بين رجال الدين السياسيين، وعليهم أخمادها حرصا على العراق.
المطلوب ليس فقط رغبات واماني وادعاء اعلامي وأحلام وردية، اذا كان هذا يخلو من صدقية الروح والاعتقاد اليقين بضرورة تكريم الأنسان الذي كرمه الله، بروح أيمانية صادقة وواضحة ايضاً وبالسلوك ليس فقط في منهج المذاهب، بل في كل القضايا الانسانية في العلاقات والتعامل الأنساني حيث ان كل المذاهب جزء من محيط البشرية وفق كل محاور الحياة الأقتصادية والثقافية والأجتماعية والسياسية، فاذا كان الاسلام يتفاهم مع بقية الاديان ويتعايش معها، فحري بالمذاهب ان تقلد النظام العام في حوارها واتفاقها على حماية الدين من كل شائبة تلتصق به في هذا الزمان حيث كثر ليس فقط الأدعياء وانما كثر من يلصق الأفعال والأعمال الأجرامية التي حرمها الله والدين تحت ستار السلفية والمذهبية والتطرف والغلو وفي الحقيقة أن الأسلام منها براء.
ثمة حقيقة من حقائق الحياة في العراق، قد تبدو قاسية ولكنها واضحة تشير الى وجود فرقة عميقة بين رجال الدين الأسلامي أنفسهم بصرف النظر عن مذاهبهم، في حين لاتجدها بين البسطاء من الناس !! وثمة أشارة الى أن الطبقة الدينية المتنحرة تستغل الوضع السياسي لتأجيج الخلافات الطائفية، ومحاولة نفخ الرماد عن جمر الطائفية الخافت في العراق، مما يؤكد وجود مصلحة لطرف ما في تثبيت معالم النهج وأبقاء حالة الأختلاف والخلاف وبث الفرقة في النفوس.
غير أن مايهمنا هو وجود أنسجام روحي بين الناس والفقراء منهم بوجه خاص، تفتقده المؤسسة الدينية ولاتسعى الى نشره ودراسة تجربته.
في وقت تتجه فيه انظار المسلمين وخاصة العراقيين منهم الى مكة المكرمة التي ينتظر ان تشهد مساء غد توقيع رجال دين عراقيين من الشيعة والسنة ميثاقا للمصالحة ووقف نزيف الدم العراقي، لم يزل رجال الدين السياسيين من كلا الطرفين يتراشقان الاتهامات والمسؤولية عن الأوضاع المتردية في العراق.
الأهم في مؤتمر مكة صفاء الضمائر والقلوب، وأبتعاد المجتمعين عن الذاتية والمصلحية والطائفية فهل يمكن تحقيق ذلك ؟