في خطوة غير مفاجئة، صادقت (الجمعية الوطنية الفرنسية) في قراءتها الأولى بتاريخ 12-10-2006 على مشروع قانون يجرم إنكار تعرض الأرمن لمذبحة على يد الأتراك اثناء الحقبة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى عام 1915.
بالطبع كانت تركيا تعلم بأن حلمها بالانضمام الى (الاتحاد الأوربي) لن يتحقق من دون (ثمن سياسي) معين يترتب عليها دفعه،لكن قطعاً لم تكن تعلم بأنها ستفتح باب (جهنم) على نفسها وهي تسعى للوصول الى هدفها،وبأنها ستحث الدول الأوربية لفتح ملفات القضايا التاريخية المنسية(المذابح) وأخرى سياسية راهنة تتعلق بحقوق الإنسان والحريات في تركيا (الملف الكردي وحقوق الأقليات المسيحية من آشوريين/سريان وغيرهم).ويبدو واضحاً أن هذه الملفات ستبقى قنابل موقوتة في طريق تركيا الى حين تبادر بنزعها عبر الاعتراف بالمذابح وتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، وتعتذر للشعب الأرمني ولباقي الشعوب والأمم التي ارتكبت بحقها المذابح.حيث قتل الى جانب الأرمن نحو نصف مليون آشوري(سريان/كلدان) وعشرات الآلاف من الروم واليونان.جدير بالذكر أن السلطات التركية كانت قد أوقفت،قبل سنوات، الكاهن السرياني(يوسف ابولت) في مدينة ديار بكر على خلفية حديث له مع صحيفة تركية حول مذابح الآشوريين.
ربما في الماضي كانت مصالح الدول الغربية تقتضي التستر على جرائم تركيا في مقدمتها(مذابح المسيحيين) التي تسعى لمحوها من ذاكرة التاريخ، خاصة وإن تركيا هي عضواً في (الحلف الأطلسي) وتمتعها بعلاقات جيدة مع اسرائيل، ويميل بعض السياسيين بأن أحد أهداف التقارب التركي الإسرائيلي هو دفع اسرائيل -التي نجحت في اصال قضية مذابح النازية (الهولوكوست اليهودي) الى العالم- حماية تركيا من شبح الاعتراف بـ(الهولوكوست المسيحي).لكن في ظل التوجهات الجديدة للسياسة العالمية ومع ازدياد اهتمام العالم الحر بالجرائم التي ارتكبت وترتكب بحق البشرية لم يعد مقبولاً أن تصمت وتتستر أوربا والعالم على ما اقترفته تركيا من جرائم حرب وعمليات إبادة بحق رعاياها من المسيحيين. ولم يعد خياراً أمام تركيا إذا كانت جادة في الانضمام الى العالم المتمدن وإقامة علاقات طبيعية مع جارتها الأرمنية،سوى مواجهة تاريخها الدموي مع المسيحيين وأن تجلس على (كرسي الاعتراف) أمام العالم وتتصالح مع هذا التاريخ ومع نفسها وتتحمل ما يترتب على ذلك من مسؤوليات والتزامات تجاه الأمم والشعوب التي أبادتها،ولا أظن يفيدها قطع العلاقات التجارية مع فرنسا وتهديد آخرين بهذا السلاح الذي تنسحب آثاره على مصالح تركيا أيضاً. فقد تجاوزت (قضية المذابح)مرحلة الإثبات والتحقق من وقوعها ودخلت مرحلة حمل تركيا وإرغامها على الاعتراف بها.إذ هناك المئات من الوثائق والشهادات ومن مصادر مختلفة ومتعددة ومن باحثين عالميين مستقلين على حصول المذابح وعمليات الإبادة،منهم المسئول البريطاني( هربرت جيس) والألماني(فرانك فيرسل) والمؤرخ البريطاني المعروف(ارنولد توينبي) الذي يقول في مذكراته: ((لم يكن المخطط يهدف إلا الى إبادة السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانية)).
بالتأكيد ساهمت عوامل عديدة في صناعة ونضج (القانون الفرنسي)، أبرزها الدور المهم الذي لعبته (الجالية الأرمنية) في فرنسا.ثم (الرأي العام) الفرنسي والأوربي المعارض لانضمام (تركيا المسلمة) الى المجتمع الأوربي وهي محملة بإرثها (الثقافي والاجتماعي) التاريخي المتخلف وسجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان.وهناك عوامل سياسية داخلية تتعلق بالانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة وأهمية أصوات نصف مليون فرنسي من أصل أرمني، ومعروف أن أصحاب مشروع القرار في الجمعية الوطنية هم من (قوى المعارضة)،المعروفة بمواقفها الرافضة لدخول تركيا الى الاتحاد الأوربي والمتشددة تجاه المهاجرين في فرنسا، خاصة بعد أعمال الشغب والتخريب والحرق التي شهدتها معظم المدن الفرنسية قبل نحو عام، قامت بها الجاليات المسلمة في فرنسا بتحريض من العديد من المنظمات الإسلامية المتطرفة. وفي سياق هذه القضية علينا أن لا ننسى التقاليد التاريخية الفرنسية في مجال احترامها للقانون والقضاء،إذ يقال: أن الرئيس الفرنسي الأسبق( ديغول) تدخل شخصياً في قضية (رجل تونسي) مطلوب للقضاء الفرنسي لطي ملف القضية لأجل مصالح اقتصادية لفرنسا مع تونس، كانت فرنسا آنذاك في ضائقة اقتصادية،لكن رفض طلب ديغول ورد القضاء الفرنسي عليه:(( لتمت فرنسا ويبقى القضاء الفرنسي حراً مستقلاً)).وبالطبع كان للتصريح الأخير للرئيس جاك شيراك، في أرمينيا: (( على تركيا الاعتراف بالمذابح إذا أرادت الدخول الى الاتحاد الأوربي..))، صداه الايجابي في جلسة الجمعية الوطنية الفرنسية للتصويت على مشروع القانون،الذي به حصرت تركيا أوربياً. وهو يعد خطوة مهمة ومتقدمة على صعيد ملف (القضية الأرمنية) وعلى طريق إنصاف الأرمن وانتصار (الضمير العالمي) على الظلم والطغيان، ومن المتوقع أن تحث فرنسا بموقفها هذا العديد من الدول الأوربية،على اتخاذ مثل هذه الخطوة وفتح باب الضغوط الأوربية والعالمية على تركيا لحملها على الاعتراف بارتكابها المجازر، خاصة ألمانيا التي كانت في تحالف عسكري مع تركيا آنذاك فهي تتحمل شيء من المسؤولية الأخلاقية تجاه المظالم التي ألحقتها تركيا بالمسيحيين بسكوتها عنها. ويعتبر السفير الألماني في تركيا آنذاك من أهم الشهود على تلك المذابح الفظيعة،وقد كتب في تقرير له الى وزارة خارجيته عام 1916: (( إن ما جرى هو عملية إبادة بحق الشعب الأرمني والمسيحيين)). لا شك، أن الموقف الفرنسي من (المسالة الأرمنية) ينطلق من الوثائق التاريخية التي تؤكد وقوع(المذبحة الكبرى)،لكن القضية بات بالنسبة للكثير من الفرنسيين والأوربيين سياسية أكثر مما هي تاريخية إنسانية،تتعلق بالدرجة الأولى بالتردد الأوربي في قبول تركيا الى الاتحاد الأوربي ولهذا التردد ابعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن المهم جداً أن لا تكون (المأساة الأرمنية) بالنسبة للأوربيين مجرد ( قضية للاستثمار السياسي) وتنتهي عند حدود عرقلة دخول تركيا الى الاتحاد الأوربي، وإنما أن تستمر فرنسا بموقفها وتحذو حذوها جميع دول الاتحاد الأوربي وأمريكا ودول العالم الحر لتشديد الضغط والحصار على تركيا حتى تعترف بمسؤوليتها عن المذابح.
بعد الانتصار الأرمني في الجمعية الوطنية الفرنسية، بدأ بعض التفاؤل يدخل قلوب الآشوريين(السريان),فهم يتأملون بأن تحظى قضيتهم(نصيبهم من المذابح) بمزيد من الاهتمام الأوربي بعد أن شقت طريقها في السنوات الأخيرة، وإن بصعوبة، الى بعض البرلمانات الأوربية، حيث نقشت في أكثر من جلسة من قبل برلمان دولة (السويد) وكذلك من قبل لجنة (الشؤون الخارجية) في البرلمان الأوربي. ويرى الآشوريون بأن قضيتهم لا تقل في جوهرها وظروفها عن مأساة الأرمن، وإن كانت هذه الأخيرة تفوق بعدد ضحاياها (المأساة الآشورية).فقد حفظ التاريخ للأرمن كياناً سياسياً خاصاً بهم ولو على جزء صغير من أرضهم التاريخية (أرمينيا)،لكن الآشوريين فقدوا كل شيء(البشر والحجر) في موطنهم التاريخي(بلاد ما بين النهرين).
سوري آشوري: مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]
التعليقات