سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى (7)

كانت التأشيرة المزورة صدمة هائلة وأسودت الدنيا فى وجهه، وبعد أن أوفى بنذره وأذن فى مالطة، هاجمته حالة من الهياج والهيستيريا مما إضطر الممرضة فى مركز إسعاف المطار أن تعطيه حقنة مهدئة وأخرى منومة، ونام فى العيادة حتى الصباح، وفوجئ حوالى الساعة الحادية عشر بالممرضة توقظه وتعطيه طعام خفيف للإفطار، ثم حضر ضابط بوليس وأخذه خارج العيادة، وسعيد غير مدرك تماما لما يحدث حوله، وتمنى أن يكون كل مايحدث مجرد كابوس وأنه سوف يستيقظ من النوم حالا ليجد نفسه بين أمه وسلوى وباقى إخواته، ولكن الكابوس إستمر وسار خلف الضابط وهو يرى الطائرات على الممر إلى يمينه ويرى إلى يساره السيارات خارج المطار والحرية، وشعر أنه صار أسيرا لهذا المبنى، وأخذه الضابط إلى غرفة أخرى، وطلب منه الجلوس على كرسى وحيد بالغرفة أمام طاولة حديدية، ورأى شبابيك عليها قضبان حديدية، وقبل أن يخرج الضابط أشار إلى الكرسى وفهم سعيد أنه يطلب منه الإنتظار بالجلوس على الكرسى، وبالرغم من أن سعيد كان بحضرة ضابط بوليس إلا أنه لم يتحسس قفاه، وأغلق الضابط الباب بالمفتاح، وجلس سعيد يتأمل الغرفة حوله فوجدها لا تختلف كثيرا عن غرفة الحجز بمركز بوليس رشيد، سوى أنها مدهونة حديثا وأن بها كرسى للجلوس بدلا من الدكة الخشبية، ولكنه وجد بها نفس الكآبة وزاد من تلك الكآبة حالة سعيد النفسية، وكان يبدو وأنه قد فقد توازنه وساعد على هذا الحقن المنومة والمهدئة والتى حقونه بها بالأمس. وبعد حوالى الساعة سمع وقع أقدام تقترب من الباب فهب واقفا، ففتح نفس الضابط الباب ودخل شخص تبدو من ملامحه أنه مصرى، ولم ينظر هذا الشخص إلى سعيد وإنما أخذ يرطن مع الضابط الخواجة ثم وقع بعض الأوراق وأعطاها للضابط، وبعدها إنصرف الضابط وخرج وترك الباب مفتوحا، وفوجئ الشخص الآخر يتحدث عربى ويقول:
- أنا مجدى القناوى القنصل المصرى هنا.
- أهلا ياسعادة البيه.
- إيه إللى هببته ده، إنت مش عارف إن جريمة التزويرعقوبتها السجن.
- والله يا بيه أنا ما زورتش حاجة، كله من المعلم جابر السوهاجى، ده أنا حأخرب بيته بس لما أرجع له.
- ما فيش داعى لكتر الكلام دلوقت، إنت دلوقت تيجى معانا على السفارة، وبعدين حنفتح معاك تحقيق، وبعد كده حنسفرك تانى مصر على أول طيارة.
(ويخرج القنصل من الغرفة ووراءه سعيد)
- تحقيق إيه يابيه، وأرجع تانى مصر إزاى، ده عندى أموت ولا أرجع كده وقفاى يقمر عيش، يابيه الله يخليك شوف لى أى شغلانه هنا أنا مش ممكن أرجع تانى.
- إنت بتستعبط إنت تحمد ربنا إنك ما دخلتش السجن هنا، إللى ساعدك إنك مش أول واحد يحاول الدخول بتأشيرة مزورة.
- شفت يابيه مش قلت لك أنا مظلوم
ويذهب معه إلى السفارة، وهناك يلقى معاملة مهينة لا تفرق كثيرا عن المعاملة التى عانى منها فى مركز بوليس رشيد، الإستثناء الوحيد هو أن قفاه لم يتعرض للصفع. وأحس بألم نفسى شديد كيف يلقى مثل هذه المعاملة فى السفارة المصرية، وقرر أن ينفجر فى القنصل شخصيا:
- إيه المعاملة الزبالة إللى إحنا بنتعامل بيها دى، كل ما أروح جهة حكومية ألاقى معاملة زى الزفت مش عيب الخواجات فى المطار يعاملونى زى البنى الآدميين، وولاد بلدى يعاملونى زى البهايم.
- لم لسانك ياواد إنت
- واد إيه وبتاع إيه، إنتو فاكرين نفسكم إيه، ده أنتو كلكم مفروض بتشتغلوا موظفين عن الشعب، الشعب الغلبان إللى بيدفع مرتباكم وسرقاتكم، إللى بيتحمل كل أخطائكم وبيدفع ثمن مغامرتكم وفشلكم، أنا الشعب، مش بتقولوا ديموقراطية، الشعب هو إللى بيحكم ويتحكم، ويغير ويبدل فيكم إنما إللى بيحصل العكس، إنتو إللى عمالين تتحكموا فينا وتزلوا فى أبدانا، وكل لما تفشلوا فى الحكم تقولوا إحنا إللى مش عارفين نتحكم..
(يضغط القنصل على جرس، ويحضر موظف مسرعا):
- ياحسن أفندى خد الواد ده إشحنه على أول طيارة، ده حيعمل لنا دوشة وقلب دماغى بكلام فاضى، وقل لهم يتوصوا بيه فى مصر.
(ودفعه حسن أفندى خارج مكتب القنصل):
- عملت إيه لسعادة الباشا القنصل، ده راجل زى السكرة.
- سكرة إيه وهباب إيه، أمثالك همه إللى خلقوا الدكتاتورية، يدوكوا على قفاكم ويضحكوا عليكوا بكلمتين وكوباية شاى على إغنيتين، وتقولوا عليهم زى السكرة.

....
ورجع أبو المعاطى إلى مطار القاهرة وهو فى أشد حالات الخزى والضعف، وبعد تحقيق سريع أخذت فيه أقواله عن التأشيرة المزورة تم إفراج سراحه، وبالصدفة وجد معه ما يكفى لكى يركب القطار عائدا إلى بلدته، وإتنظر ودخل القرية تحت جنح الظلام حتى لا يراه أحد، ووجد كل أهل بيته يغط فى نوم عميق، وأيقظ أمه برفق وكادت يغمى عليها من الصدمة، وإنتابتها مشاعر مختلطة ما بين فرحة برؤية سعيد وما بين قلق لسر عودته المفاجئ والسريع، وحكى لها سعيد كل التفاصيل، وقال لها أنه قد صمم أن يبقى فى البيت مختبأ لعدة أيام حتى لا ينكسف وينفضح لفشله أمام أهل القرية، وبعد عدة أيام سوف يقرر ماذا سيفعل.

....
مكث سعيد مختبأ فى المنزل بعيدا عن الأعين، وحرص على أن يلقن أخواته أن يبقين خبر عودته سرا إلى أن يخرج من مخبأه.

....
وإنتهز فرصة إقامته الجبرية فى المنزل لقرءة العديد من الكتب والتى كان قد إستعارها من مكتبة قصر ثقافة رشيد، وقرأ الكثير عن الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والدستور الأمريكى والماجنا كارتا البريطانية وعن تجربة الهند فى الديموقراطية وعن غاندى وإسلوبه فى المعارضة السلبية ونظريته فى اللاعنف، وقرأ عن تاريخ مصر وعن الفترة الذهبية لمحمد على باشا وأين أخطأ ولماذا لم تستمر تلك النهضة التى بدأها، وأصبح أبوالمعاطى أكثر تصميما من أى وقت مضى على أن الديموقراطية هى أهم سبل الإصلاح، وأن مصر عاشت أزهى عصورها عندما كانت تتمتع بالديموقراطية حتى ولو كانت تحت الإحتلال، وأيضا أثارته كثيرا الحملة الفرنسية على مصر وكيف أن تلك الحملة برغم أنها إستمرت أقل من أربع سنوات إلا أن تأثيرها الثقافى إستمر لقرنين من الزمان، وأثار غيظه كثيرا كيف أن الشعب المصرى رفض الحملة التنويرية الفرنسية الأجنبية بالرغم من قصرها، وقبل ظلم وظلام حكم المماليك والأجانب الأتراك لأكثر من عدة قرون من الزمان ولم يتخلص المصريون من هذا الظلم إلا بالحملة الفرنسية ثم بمذبحة القلعة والتى أرخت نهاية حكم المماليك، وأصبح هذا بالنسبه له لغزا لا يملك إجابة له، وأصر على أن يبحث عن هذا السر لماذا تقبل الشعوب ظلم وقهر حاكم من نفس الدين وترفض التنوير والتقدم إذا جاء عن طريق أجنبى مختلف عنهم فى الديانة، وحاول أن يتعرف عن أهم سؤال كيف يمكن تحرير هذا الشعب وتحويله من مجرد عبيد للحكام إلى سادة يختارون مصيرهم بأنفسهم كيف يمكن أن يحدث هذا بسلام وبدون إراقة دماء، وهل يمكن أن يتخلى الحكام وحواريوهم وصبيانهم عن مراكز نفوذهم وثرواتهم ويكتفون بالفتات مثل عامة الشعب، وهل يمكن أن يحدث الإنتقال من مرحلة العبودية إلى السيادة الكاملة بسلاسة وكم من الوقت يمكن أن تأخذه تلك المرحلة الإنتقالية ؟ أسئلة رواحت عقل أبو المعاطى ولم تجد لها إجابة.

...
وإستمر سعيد فى محبسه الإختيارى لعدة اسابيع، ولا يدرى لماذا تذكر نكتة :quot;الفلاح الغلبان الذى سافر إلى ليبيا للعمل هناك وأبلغ كل قريته أنه مسافر ولن يرجع إلا وقد أصبح عنده ما يكفى من الفلوس، ثم عاد بعد أسبوع واحد بعد فشله فى إيجاد عمل وابلغ زوجته أنه سوف يختبأ من الناس فى داره وأن عليها أن تخبر الناس أنه ما زال فى ليبيا، ولكى تستطيع زوجته الحياة بدون أى دخل إضطرت لإستقبال رجال فى البيت بالفلوس، ومرة لاحظ الزوج أن زوجته دخلت غرفة مع رجل غريب وأغلقت الباب وراءهما، ورأى زوجها ذلك فضرب قبضته القوية فى كف يده وقد إستشاط غضبا وقال بصوت مكتوم:
quot;آه يا نارى... بس لو ما كنتش فى ليبياquot;!

[email protected]