تم منح جائزة نوبل للسلام هذه السنة مناصفة إلى أمير الفقراء، كما اسماه عبد الرحمان الراشد في صحيفة الشرق الأوسط، الدكتور محمد يونس و البنك الذي أسسه و يشرف على إدارته: بنك جرامين، والمعروف ببنك القروض الصغيرة أو بنك الفقراء. جاء في بيان لجنة نوبل: quot; لا يمكن أن يتحقق السلام الدائم في العالم ما لم نجد طريقة لاخراج مجموعات كبرى من السكان من مخالب الفقرquot;. و عللت قرارها بمنح الجائزة للدكتور محمد يونس و بنكه للدور الكبير الذي لعباه في هذا الاتجاه. فما هو النموذج الذي أسس له د. محمد يونس؟ و ما سر نجاحه؟ و كيف بإمكان الدول العربية و الإسلامية أن تستفيد منه؟

عاد د. محمد يونس إلى بلده بنجلادش بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة quot;ثاندربيردquot; الأمريكية. و عمل بعد ذلك مدرسا بالجامعة، بالإضافة إلى أبحاث تخص اهتماماته بمسائل التنمية، التي لا يمكن أن تعني غير مكافحة الفقر المدقع ببلد مثل بنجلادش. و من خلال اتصالاته الشخصية بالفقراء تبين له أن أحد أهم العوائق التي تحول دون خروجهم من دوامة الفقر تتمثل في عدم قدرتهم على الحصول على التمويل اللازم -و لو كان ضئيلا- لمشاريعهم الاقتصادية. و هذا العائق هو في الحقيقة نتيجة فشل البنوك التقليدية التي لا يمكنها أن تقرض إلا برهن (منزل المقترض على سبيل المثال). و هذا غير ملائم للفقير الذي قد لا يمتلك سكنا قابلا للرهن بالأساس.

من هنا جاءت فكرة د. محمد يونس للإقراض بدون رهن، لكن مقابل تعهد من مجموعة أصدقاء بحيث لا تحصل باقي المجموعة على قرض إلا بعد استرجاع البنك للأموال التي منحها للمقترض الأول. و من هنا يكون الضمان أخلاقيا قبل كل شيء و نتيجة ضغط المجموعة.

بدا د. يونس عملية الإقراض بمبلغ 27 دولار من ماله الشخصي إلى امرأة فقيرة تريد القيام بمشروع تجاري بسيط. ثم مع نجاح التجربة، و ذيوع شهرة quot;مقرض الفقراءquot; في وسائل الإعلام المحلية، تأسس quot;بنك جرامينquot; سنة 1976، ليتوسع بعد ذلك. وهو يقرض اليوم لاكثر من 6،6 مليون فقير في بنجلادش، نسبة 97% منهم من النساء، و يغطي اكثر من 71 ألف قرية ( للمزيد يمكن الرجوع إلى موقع البنك: www.grameen-info.org ). و الاهم من كل هذا النسبة العالية لاسترجاع القرض التي تفوق 99%، مما يعني قدرة البنك على الاستمرار دون حاجة للدعم المالي الخارجي. و هذا خلافا لعديد برامج الإقراض للمؤسسات الصغيرة من طرف البنوك التجارية التقليدية، حيث تكون نسبة القروض غير المسترجعة عالية مما يؤدي إلى انهيار البرنامج في نهاية الأمر.

مع نجاح التجربة ذاع صيتها بالخارج، مما شجع أصدقاءها على نقلها إلى العالمية. و تم ذلك سنة 1997 بتأسيس مؤسسة جرامين كمؤسسة غير
ربحية بواشنطن (
www.grameenfoundation.org)، مما شجع على إنشاء بنوك محلية على نموذج جرامين في حوالي 46 دولة، بما فيها ولايات أمريكية عدة.
و جاء هذا بعد النصح الذي تقدمه المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد و البنك الدوليين بتقديم القروض الصغيرة للفقراء على اعتبارها رافعة أساسية لمقاومة الفقر. و أعلنت الأمم المتحدة 2005 السنة العالمية للقروض الصغيرة و نظمت منتدى عالمي خاص بهذا الشان
(
www.yearofmicrocredit.org ).

و لا بد أن نذكر هنا بمبادرة برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية الذي يرأسه الأمير طلال بن عبد العزيز، و التي عملت على إنشاء شبكة من بنوك الفقراء في الدول العربية، منها بنك الأمل في اليمن و بنك الرجاء في لبنان، و مؤسسات شبيهة في الأردن و دول أخرى (مزيدا عن هذا على موقع البرنامج: WWW.AGFUND.ORG ). و تم إنشاء quot;البنك التونسي للتضامنquot; الذي يوفر قروضا صغيرة للشباب حاملي الشهادات، الذين تمثل بطالتهم جرحا اجتماعيا خطيرا و مرتعا للإرهاب المستتر بالدين على امتداد العالم العربي و الإسلامي.

لا شك أن العالم اليوم بحاجة إلى المزيد من هذه البنوك للتعامل مع الفقر، حيث يعيش اكثر من مليار شخص بأقل من دولار واحد في اليوم. و قد وعت الدول العربية ذلك و أسست -كما أشرنا سابقا- لعديد البنوك المتخصصة في القروض الصغيرة، لكن العبرة من نجاح جرامين ليست في حجم القرض و إنما في الطريقة التي يتم بها لضمان استرجاعه، مما يوفر للبرنامج شروط النجاح و الديمومة.

هذه دعوة لوزرا الشؤون الاجتماعية في الدول العربية لاعادة تنظيم بنوك الفقراء فيها على نموذج جرامين، وهي أيضا دعوة لاثرياء العالم العربي، بما فيه حكومات الدول النفطية، و للأمير طلال بن عبد العزيز للمساهمة في هذا المجهود الحيوي، و باستعمال أحد أنجع الطرق التي اخترعها د. محمد يونس لانتشال البشرية من كابوس الفقر، و على أساسها نال جائزة نوبل للسلام للعام 2006.

باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية و خبير سابق بصندوق النقد الدولي.

[email protected].