تتطلب عملية الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تنفيذ عديد الإجراءات، ضمن جدول زمني معين، بحيث يتم البدء بالإجراءات التي لا تحتمل الانتظار و/أو ذات الفائدة الأكبر، تتبعها في ما بعد إجراءات أخرى مكملة، وهو ما توصلت له عديد الأبحاث الأكاديمية فيما يعرف بالترتيب الأمثل للإصلاح الاقتصادي (Optimal Sequencing of Economic Reforms). يركز المقال على ضرورة إعطاء الأولوية، في عملية الإصلاح في الدول العربية للحداثة، أي ضمان حقوق المرأة، اتخاذ إجراءات حازمة لتحديد النسل، واعتماد مناهج عصرية للتعليم، بالتوازي مع أسس الإصلاح السياسي، وإرجاء الانتخابات إلى مرحلة أخيرة. وسيكون خير دليلنا على ضرورة اتباع هذا الترتيب، الفشل الذريع الذي منيت به التجارب المخالفة، التي اقتصرت على تنظيم انتخابات حرة نسبيا (السودان ما بعدد النميري ، الجزائر عام 1991 ، الكويت بعد التحرير، وعديد الدول العربية الأخرى خلال السنة الماضية ...).
لتحديد مجالات الإصلاح، يكفي الرجوع إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2002 الذي نبه للنواقص الثلاثة التالية: (1) المعرفة، (2) الحريات العامة، و(3) حقوق المرأة.
لتدارك النقص الحاصل في ميدان المعرفة، يتوجب على الدول العربية اعتماد نظام تعليمي عصري، مما يعني بالضرورة إلغاء المدارس الدينية بدمجها في منهاج التعليم العام، كما حصل مؤخرا في الجزائر عندما تم إلغاء شعبة العلوم الإسلامية من المرحلة الثانوية. ويتطلب هذا أيضا إعادة هيكلة كليات الشريعة وتخفيض عددها. في الجزائر، على سبيل المثال، أصاب وزير التربية عندما قال مدافعا عن محاولته العام الماضي إلغاء أربعة جامعات إسلامية من مجموع خمسة quot; انه اتخذ قراره انسجاما مع سوق العمل التي لم تعد تتسع لخريجي كليات الشريعة باعتبار أن قطاعي التعليم والشؤون الدينية يشهدان تخمة ولم يعودا قادرين على استيعاب المزيد من المتخرجين في السنوات الأخيرة مما فاقم نسبة البطالة في صفوفهمquot;. كما أصاب احمد صبحي منصور، في لقاء أخير على قناة الحرة عندما أكد مرارا انه quot;لاصلاح مصر لا بد من إصلاح الأزهر.quot;
كما يتوجب اعتماد المناهج المتقدمة للتعليم بالبدء مبكرا بتدريس اللغات الحية والإنسانيات (الآداب والفلسفة الغربية) واعتماد المناهج المتفوقة للعلوم، مثل مناهج الرياضيات السنغافورية، وتدريسها باللغة الأصلية (أي بالإنجليزية أو بالفرنسية في دول المغرب العربي)، خلافا للتقليد الحالي القاضي بتدريس مناهج متخلفة وباللغة العربية، مما أدى ألي النتائج الهزيلة للطلبة العرب في المسابقة الدولية في هذه المادة، التي نشرت نتائجها السنة الماضية، حيث جاء ترتيب المغرب السابعة قبل الأخيرة، والسعودية الرابعة قبل الأخيرة (يرجى التكرم بالتثبت في النتائج بالرجوع إلى موقع
http://timss.bc.edu:).
ولعل اقصر وأنجع الطرق لتلافي النقص الحاصل على مستوى حقوق المرأة، اعتماد باقي الدول العربية لمجلة الأحوال الشخصية التونسية الصادرة عام 1956، التي ألغت تعدد الزوجات ووضعت حدا للتجاوزات والمظالم الكبرى التي تتعرض لها المرأة في حالة الطلاق، مع إجراءات أخرى مكملة مثل الالتزام الكامل بالاتفاقيات الدولية الهادفة لصيانة حقوق المرأة وإلغاء كافة أنواع التمييز ضدها.
المأخذ الأساسي على هكذا إصلاح اعتبار quot;وضع المرأة التونسية هش لانه لم يكن وليد حركة نضالية نسائية بل انه جاء نتيجة مبادرة شخصية وارتبط منذ البدء برغبة ذكورية وإرادة سياسية فوقية لا تستند إلى القاعدة ولا تعبر عن حاجاتها. فالمرأة لم تتحرر بموجب وعي شخصي ونضال مرير قادته في سبيل تغيير مكانتها إنما ضربت الوصاية عليها، وهي وصاية مضاعفة: وصاية الرجل ووصاية الدولة وبذلك تم اتخاذ القرار نيابة عن النساء وصيغت المطالب على لسان الرجال. ثم إن التغيير لم يراع التدرج وإنما حدث بنسق سريع متسم بالعنف. فإزاء العنف الذي مارسه المجتمع البطريكي طيلة قرون، هناك عنف سياسي فرض تغيير منزلة النساء بالقوة رغم معارضة رجال الدين والمدافعين عن الموقع الذكوري المتميز.quot; (آمال قرامي: مسيرة التونسيات: استمرارية أم قطيعة، 9 مارس 2006، موقع: Metransparent.com).
لكن تجربة العقود الخمسة الماضية تؤكد انه لا بديل حقيقة عن اتخاذ هذا المنحى. فدولة المغرب، على سبيل المثال، فشلت -ولسنوات طويلة- في اتخاذ إجراءات حازمة لصالح المرأة. ويمكن تبرير هذا بعدم الارتباط quot;برغبة ذكورية وإرادة سياسية فوقية لا تستند إلى القاعدة ولا تعبر عن حاجات المرأة.quot; لكن هذا لم يجدي نفعا بدليل أن هذه الدولة عادت لتتخذ قوانين شبيهة بمجلة الأحوال الشخصية التونسية باعتماد quot;المدونةquot; سنة 2003 ، لكن بعد أن خسرت المرأة المغربية والدولة المغربية ككل عقود طويلة.
كذلك، توفر الحداثة التربة الصالحة لنمو نبتة الحرية والحكم الرشيد، مما يساعد على نجاح الانتخابات الحرة، التي تأتى، في هذه الحالة، تتويجا للمجهود السابق، على عكس ما يجري حاليا في الوطن العربي من قفز في المجهول نتيجة التسرع في تنظيم انتخابات حرة نسبيا، لكن في مجتمع لم تتوفر فيه الشروط الضرورية لتحمل نتائجها وتبعاتها.
ومن المهم التنويه بان تنظيم quot; انتخابات حرة ونزيهة quot; في ظل نظام عام يهمش بل ويسحق المرأة، وتعليم تقليدي، وأوضاع اقتصادية متردية، سيكون مجرد عملية عبثية، لن تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى إيصال قوى متخلفة لمؤسسات الدولة، تقف بعد ذلك عائقا أساسيا أمام الإصلاح والتقدم. وهذا ما حصل فعلا في دول مثل الجزائر والسودان والكويت، خلال الفترة الماضية.
في السودان، وخلافا للترتيب الذي تم التعرض إليه سابقا، عمد اللواء سوار الذهب بعد الإطاحة بالنميري إلى تنظيم انتخابات حرة كانت نتيجتها حكومة منتخبة ديمقراطيا، لكنها غير قادرة على رفع تحديات الحداثة والتقدم. وأعطى هذا فرصة ثمينة للأصولي حسن الترابي لتنظيم انقلاب عام 1989، مما دمر العملية الديمقراطية وأدى إلى الزيادة في وتيرة الحرب الأهلية.
وحصل نفس الشيء في الجزائر. لقد كان من الواضح أن الأولوية المطلقة بعد رحيل الرئيس بومدين تتمثل في القيام بإصلاحات جذرية في مجال حقوق المرأة والتعليم والاقتصاد. إصلاح وضعية المرأة كان سيضمن دعم اكثر من نصف المجتمع لعملية التحديث. إصلاح التعليم الذي دمرته عملية التعريب الفوضوية وغير المدروسة، كان من شانه تجفيف منابع الإرهاب، من جهة، وخلق مهارات تلبي متطلبات النهوض الاقتصادي من جهة أخرى. والإصلاح الاقتصادي كان بامكانه تحسين الأحوال المعيشية للمجتمع ونمو طبقة متوسطة تمثل صمام الأمان أمام المحاولات التخريبية لقوى التخلف والإرهاب. لكن شيئا من كل هذا لم يحدث. لذلك عندما انفجر الغضب الشعبي في أكتوبر 1988، لم يجد الرئيس الشاذلي بن جديد للتملص من الورطة غير تنظيم انتخابات حرة (بلدية ثم تشريعية) حصلت فيها جبهة الإنقاذ الأصولية على أغلبية الأصوات نضرا لعدم توفر البديل، وكانت النتيجة إغراق البلاد في حمام دم أدى إلى نحر قرابة 200 ألف مواطن وخراب اقتصادي يقدر بـ 30مليار دولار، حسب الأرقام الأخيرة التي قدمها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
كما وقعت دولة الكويت بعد تحريرها من الغزو الصدامي في نفس الخطأ. وكانت النتيجة المتوقعة للانتخابات البرلمانية الحرة أن وجدت الدولة نفسها رهينة لأغلبية قوى عشائرية سلفية متخلفة في البرلمان. وهكذا عرقل البرلمان quot;المنتخب ديمقراطياquot; المساعي الحكومية للتطوير، بما فيها المرسوم الأميري الصادر عام 1999 لإعطاء المرأة حقوقها السياسية. ولم تنجح الحكومة في تمرير القانون الجديد للمرأة الكويتية يوم 16 مايو2005، إلا عندما ذهبت إلى البرلمان بالقانون في يد والتهديد بحل البرلمان في اليد الأخرى. وقد عطل هذا عجلة التقدم في الكويت وأدى إلى تراجع نسبي كبير للبلاد التي كانت في صدارة الدول النامية خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
تثبت التجارب الفاشلة التي عرضنا لها سابقا عبثية محاولة إرساء الديمقراطية في دول ما زالت في مرحلة ما قبل الحداثة، ناهيك عن حصر العملية الديمقراطية في تنظيم الانتخابات الحرة. لذلك نؤكد على أن أولى أولويات الدول العربية اليوم تتمثل في إرساء أسس الحداثة. الدول التي تفشل على هذا المستوى وتكتفي للخروج من ورطتها بتنظيم انتخابات لن تكون نهايتها بأفضل من جزائر ما بعد انتخابات 91، مما سيعرقل مسيرة تقدمها ولسنوات طويلة في المستقبل.
[email protected]