واقعة خطف أكثر من مائة موظف من وزارة التعليم العالي وسط بغداد، ونهارا جهارا، هو من أكبر عجائب ما بعد صدام وأكثرها إثارة للاشمئزاز والحزن معا. غرائب ما بعد انهيار النظام السابق أكثر مما تعد وتحصى، ولذلك فلو لم تقع غريبة الخطف الجماعي هذه لكان الأمر هو العجب العجاب. ونذكر أنه عند وقوع وثبة 1948 نشرت صحيفة يسارية عربية مقالا تحت عنوان quot;لو لم تكن لكانت هي الأعجوبة.quot; وكان المقال يقصد أن الشعب العراقي الذي كان مشبعا بالروح الوطنية كان منتظرا منه أن ينتفض ضد معاهدة اعتبرت في حينه لغير صالح العراق وسيادته. أما اليوم فيمكن القول إنه لو لم يقع هذا الخطف وأكبر منه لكانت هي الأعجوبة، بعد أن استفحلت الفوضى، وحرب الإرهاب واستهتار المليشيات، وانتشرت الطائفية بكراهيتها العمياء.
يوم أمس لم يكن واضحا من هم الخاطفون، ولكن أخبار اليوم تؤكد أنهم من مليشيا الصدر حيث نقل المختطفون لمعقل تلك المليشيا في مدينة الثورة المسماة اليوم بالصدر. هنا يتكرر السؤال عن قدرة الحكومة بل وإرادتها وتصميمها لحل المليشيات ولو بالقوة إن كانت ضرورية، ليمكن التفرغ كلية للتصدي لقوى الإرهاب الصدامي ndash; القاعدي؟!! لا أعتقد، ولأسباب ذكرت في مقالات سابقة.
إن الأزمة الأمنية المتفاقمة لا يمكن علاجها بترقيعات وزارية وحلول تسكينية، بل بتغيير السياسات، واختيار الساسة والعسكريين المتجردين من الارتباطات الحزبية والنزعات الفئوية.
لقد صرح السيد المالكي مؤخرا شاكيا أن يديه مقيدتان بسبب القيادات العسكرية الأمريكية. والسؤال الكبير: كيف تطالبون بتولي القوات العراقية لمسؤوليات الأمن العراقي إذا كنتم عاجزين عن معالجة استهتار جيش المهدي وجرائمه اليومية وهو في عقر بغداد؟! ولا نعتقد أن الأمريكان سيعارضون استخدام القوات العراقية لحل هذه المليشيا الإرهابية التي صارت بؤرة لفدائيي صدام ولزمر الجريمة مع شرائح من الشباب الضائع المسكين الباحث عن رزق ولو بالدم. أما إذا ثبت من التحقيقات العراقية الرسمية أن ضباط شرطة وفريقا من الشرطة هم الخاطفون فيجب معاقبتهم بكل صرامة، والقيام بتطهير جذري وفوري لجميع القوات العراقية، إذ لا يمكن لقواتنا تولي المسئوليات الأمنية لوحدها مستقبلا مع وجود طابور أسود في داخلها.
إن ما يدخل في أعاجيب عراق اليوم أن يجري هذا الخطف الجماعي دون أن يتقدم مسؤول من الوزارة بمطالبة الخاطفين من الشرطة بإظهار أوراق هوياتهم والأمر الرسمي بالاعتقال.
لقد عاث مقتدى الصدر بأمن العراقيين منذ سقوط صدام، وتكررت جرائمه وفتنه، وأعلن مرارا عن تضامنه مع الإرهابيين في الفلوجة، ومع أن له علاقات حميمة بهيئة العلماء السنية لكنه صار في الوقت نفسه يمارس حربا طائفية دموية، كما يمارسها إرهابيو صدام والقاعدة. لا عذر أبدا للتساهل مع المليشيات الحزبية، ولا يمكن تبرير حرب التطهير الطائفي بحجة أن القاعديين والصداميين هم الذين مارسوها، فلا تبرير لجريمة بالإشارة لجريمة مماثلة.
الوضع العراقي مأساوي وعجائبي، والعراق مقبل على الانهيار، وكأن لسان حال المسيرة الوطنية المنكمشة: quot;القاعديون والصداميون من أمامكم والمليشيات الحزبية من ورائكم، ودول الجوار تطوقكم، فإلى أين المصير؟!quot;
ولعل مستقبل العراق والعراقيين يطرح أيضا كيف يمكن إعادة تربية وتثقيف هذه الأعداد الكبيرة من العراقيين في أنحاء البلاد، الذين انطلقوا بغرائزهم بعد سقوط الفاشية نهبا وقتلا وتعذيبا وقطعا للرؤوس؟ كم عقد أو عقود سنين تتطلبها عملية إعادة التربية بروح الوطنية والصالح العام؟! ومن سيقوم بهذه المهمة المستديمة والطويلة الأمد التي قد تكون أكبر وأكثر تعقيدا من المهمة الأمنية المستعجلة والتي هي مهمة المهام اليوم؟؟ العقول العراقية تقتل وتخطف وتهرب، والفضائية العراقية وكر للدعاية الطائفية والمجتمع المدني محاصر والقوى العلمانية مهمشة. أجل، كيف تمكن إعادة تأهيل الإنسان العراقي، الذي خرب عقله وأخلاقه النظام المنهار، وزادته الأحزاب الحاكمة اليوم وتدخل رجال الدينفي السياسة خرابا فوق خراب؟!