قبل أيام خرج علينا الأستاذ (عباس البياتي) عضو البرلمان العراقي عن قائمة الإئتلاف (الميتافيزية) طبق مواصفات زعماء الإئتلاف أنفسهم، وذلك على أحدى الفضائيات العربية (الخبيثة!) ليتحدث لنا عن التغيير الوزاري المرتقب في العراق الجريح، وبعد أن أكد لنا الأستاذ بلغة صارمة وحاسمة من أن التغيير المذكور آت لا ريب فيه، علل في الأثناء سبب هذا التغيير بالأداء السيء لبعض الوزراء، علما أن التغيير سيكون شاملا كما قال. ولكن يبدو لي أن الأستاذ البياتي استدرك في داخل نفسه سذاجة السبب، فأراد معالجة المفارقة بسبب أعمق، فادعى أن السيد رئيس الوزراء لم يحالفه الحظ لإختيار وزراء على قدر المسؤولية، لأن لم يكن لديه الوقت الكافي للتؤكد من كفاءات هذا الكم الكبير من الوزراء، أو لم يكن يملك الوقت المطلوب للتدقيق بالمعلومات التي رُفعت عنهم عن طريق كتلهم التي رشَّحتهم، بما في ذلك كتلته التي ينتمي إليها، أي كتلة الإئتلاف العراقي الموحّد!
لقد جسّد السيد البياتي كل براءة وجهه في تعليله هذا، حقا كان تعليلا بريئا، لأني أجزم ان السيد البياتي مؤمن بهذا التعليل البسيط، ولكن في تصوري هو تعليل ميت لدى رجال الحكم، ولدى أساطين العمل السياسي، ولدى كل من يقرأ خطورة الأوضاع في العراق، ولدى المتمرسين السياسيين وقت الأزمات. حقا من الغرابة أن يوافق السيد المالكي على توزير من يثبت فشله لاحقا، لأنه لا يمك الوقت الكافي لمعرفة خلفياتهم، ومعرفة دقة المعلومات المرفوعة بشأنهم من قبل كتلهم، وإلا أي مهمة تنتظر رئيس الوزراء وهو يشكل حكومته ؟ يبدو ـ إذا كان تعليل السيد البياتي صحيحا ـ إن السيد المالكي كان يشكل فريق كرة قدم وليس حكومة تواجه أخطر وضع في العالم، كم هي كارثية إذن طريقة السيد المالكي في التعامل مع هذه النقطة الخطيرة!! وهل تتحمل كتلته وحزبه مستحقات هذا التعامل الكارثي في هذه النقطة المصيرية؟
ولكن حسب علمي أن تشكيل وزرارة الماكلي اخذ من الوقت ما كان يهدد بإنهيار العملية السياسية كلها، حتى نفذ صبر الناس، وراح المواطن العراقي يشكك بولادة حكومة السيد المالكي لطول مدة الإنتظار، بل وكما أتذكر كانت هناك صيحات استغاثة ومطالبة وإلحاح من بعض المرجعيات الروحية للإسراع بتشكيل الحكومة، وكانت منابر خطب الجمعة تنذر بالخطر المنتظر فيما إستمرت حكومة المالكي في طي الرحم المجهول. وبالتالي، لا مكان ولا موضوعية لمثل هذا التعليل البريء، البريء على لسان قائله، أقصد البياتي وليس على لسان غيره بكل تأكيد ، وإن كنا لم نسمع لحد هذه اللحظة مثل هذا التعليل على لسان السيد المالكي، فيما يشيع بعض المحسوبين عليه إنه كان مضطرا لهذه الخيارات تحت ضغط الكتل النيابية، وإن الرجل كان عالما بالقدرات المتدنية للكثير من المرشحين! ولا أريد أن اناقش هذا التعليل، لأنه هو الآخر يكشف عن خيبة أمل.
والآن يجد المالكي نفسه من جديد أمام المشكلة، مشكلة إختيار وزراءه الجدد على امل التغيير الشامل ، فهل سوف تتكرر التجربة الحزينة ؟ وهل سوف يطلع علينا من يعلل تكرارها بعدم توفر الوقت الكافي للتدقيق بخلفيات المرشحين ؟ أو بحجّة أن السيد المالكي مضطر لذلك تحت ضاغط الكتل النيابية ؟ أم سوف نقرأ تعليلات من نوع أخر؟
لا أعتقد سوف ينفع في هذه المرة أي تعليل حتى لو كان السيد المالكي يملك مسشتارين إعلاميين كبار قادررين على صياغات بارعة تتحايل على كل الوقائع الحية، حتى لو كان مسشتاروه الأعلاميون على وزن المرحوم ميشال أبو جودة أو محمد حسين هيكل أو سليم اللوزي أو نعيم سركوس!!! فليس من شك أن المراسلين الصحافيين غير قادرين أصلا كما هو معلوم على مثل هذه المهمات الدقيقة.

المالكي الآن أمام إمتحان صعب، ذلك هو إمتحان أختيار الوزاء الجدد، التغيير الوزاري الشامل، وإذا لم يخرج من هذا الامتحان ظافرا، كيف سيخرج ظافرا في معالجة الأزمة الأمنية ؟ وإذا لم يتمكن من الوقوف صلبا أمام ضغوطات الكتل النيابية، كيف سيكون له موقف صلب تجاه الأنظمة الخارجية التي تريد تمزيق العراق ؟ وإذا لم يملك الإرادة الحرة في فرض الوزير الكفوء كيف ستكون له إرادة حرة في رفض الضغوط الأمركية ؟
أن المالكي بحسب موقعه الذي يشغله رجل دولة قبل أن يكون عضو حزب، ومصلحة الدولة فوق مصلحة الحزب، مهما كان هذا الحزب إسما وبرنامجا وتاريخا، وإذا لم يقفز المالكي فوق ضغوطات الحزب و رجل الدين و العشيرةو الكتلة النيابية فسوف يُغرِق العراق في ظلام دامس، وهو المسؤول الاول.
نعم!
ينبغي على المالكي أن يتحدى حتى أمريكا في إقرار ما فيه إنقاذ العراق، وإ ن كان الرجل صرح مرة (أنا صديق أمريكا وليس رجلها الاول)، ورحم الله السادات، فقد كان يقول (عزيزي كسينجر) ولم يقل صديقتي أمريكا، لان (أمريكا) دولة غامضة تنحلّ إلى عوالم غريبة عجيبة، منها البنتاكون، ومنها المخابرات، ومنها التكتل الصناعي العسكري، ومنها مجلس الأمن القومي، ومنها المسيحية الأصولية، ومنها اللوبي الصهيوني، ومنها هيئة الرئاسة الحكومية، ومنها وزارة الخارجية، ومنها التكتلات الاقتصادية، ومنها الحزبان الكبيران. ولذا أعلن السادات صداقته لشخص بعينه وليس لأمريكا كي لا يضيع في بحرها الهائج.