1 ـ تيرى أندرسون هو مراسل وكالة الأسيوشيتدبرس الذى قضى رهينة لمدة (2455 ) يوما فى لبنان، ضمن خمسة اختطفهم حزب الله فى البقاع، وكانوا ينقلونه من مكان سرى الى آخر، عشرين مرة، وفى كل مرة كانوا يكممون فمه فيشرف على الموت إختناقا، وأحيانا كانوا يضعونه فى أربطته المحكمة أسفل عربة نقل فيحاصره عادم السيارة والتلوث وإحتمال التقيؤ من فمه المكمم مع صعوبة التنفس ويرى الموت يقترب منه مع كل رجة من عربة النقل، وهى إحدى المآسى التى عاشها تيرى أندرسون عدة مرات، وإن كان حبسه فى الزنزانة مع رفيقه تيرى ويت المصاب بمرض صدرى مزمن أشد فى المعاناة، والأقسى والأسوأ هو معاملة الحراس لهم طيلة فترة الاختطاف.
2 ـ وقد أجرت مجلة التايم الأمريكية حوارا مع تيرى أندرسون بعد أن تم تحريره وعاد لموطنه، ونشرت التايم ذلك الحوار فى عددها الصادر فى 18 مايو 1992، وحين قرأت ذلك الحوار شعرت بالعار مما فعله أبناء قومى بدينهم الإسلام وهم يمارسون الإرهاب وإختطاف الرهائن الأبرياء بإسم الإسلام العظيم.
3 ـ لقد وصف أندرسون معاناته فى الزنزانة فى الفاظ قليلة ولكنها فى منتهى الصدق فى التعبير، وأشد ما فيها إيلاما ما يبدو بين السطور من محاولته نسيان ماحدث، مما يدل على أنه بعد مضى فترة علاج وإستشفاء من كوابيس المحنة فإنه ليس مستعدا للخوض فى تفصيلاتها. إلا أنه مع ذلك التقتير فى الكلام عن معاناته فى الأسر فإنه توسع فى الحديث عن دروسها وتأثيراتها عليه وإنطباعاتها فى نفسه إذ عاد مسيحيا ملتزما بعد أن كان مارقا عن الدين، واصبحت له نظرة موضوعية لأولئك الذين خطفوه بل إنه يجد لهم بعض العذر بسبب ماحدث لهم من الولايات المتحدة التى يعتبرونها الشيطان الأكبر، ولايملك المرء إلا أن يعجب بذلك الإنسان النبيل الذى يدفع السيئة بالتى هى أحسن وينسى ويغفر، ولاتدفعه معاناته من مختطفيه إلا إلى الرفق بهم فى كلامه عنهم ومطالبته قومه بأن ينظروا الى مشاكل الشرق الأوسط نظرة جديدة موضوعية.. وأحسب أننى لو كنت مكانه ما تصرفت بنفس هذا النبل العظيم..
إن آخر سؤال وجهته المجلة لأندرسون هو هل تحمل ضغينة لأولئك الذين خطفوك، وكان رده أن قال : ليس لدى الوقت لذلك، ولا أحتاج لذلك إن المطلوب منى كمسيحى أن أنسى ذلك و أصفح عنهم، إننى أدعو لهم ولا أرجو لهم أى سوء.. بورك فيك يا مستر أندرسون.. !!
4 ـ كنت دائما أعتقد أن الغرب فى الغالب منصف فى كل شىء إلا فيما يخص الإسلام. فالرأى السائد عند مثقفى الغرب والمستشرقين هو مسئولية الإسلام عن تأخر المسلمين، ويحلو لهم أن ينسبوا سيئات المسلمين الى الإسلام ويستشهدون بما كتبه المسلمون فى تراثهم من أقاويل وأقاصيص منسوبة للنبى عليه السلام، وبما كان يفعله الخلفاء غير الراشدين، ويعتبرون أن ذلك هو الإسلام، ويؤكد دعواهم أن المسلمين أنفسهم يدافعون عن تلك الكتب ويقدسون تلك الأ قاويل ويحكمون بكفر من يناقشها ومن يثبت مخالفتها للقرآن الكريم وصحيح الإسلام، ثم شهد القرن العشرين تدهور المسلمين وتحولهم إلى شراذم متعادية متخلفة تستر عجزها بالإرهاب الذى ينصب على الأبرياء والضعفاء، ثم ظهر التطرف الدينى مجمع كل هذه النقائص وأسبغ عليها رداء دينيا يبرأ منه الإسلام، إلا أن التطرف الدينى لم يجد عناء فى الاستدلال من كتب التراث على مشروعية مايفعل، وإتخذ من ذلك سيفا يهدد به كل مصلح يدعو لتنقية عقائد المسلمين وإنصاف الإسلام من تلك التصرفات التى يرتكبها المسلمون.
وكأنما تعمد تيرى أندرسون أن يثير مواجعى حين أجاب عن سؤال لمجلة التايم يتعلق بعقائد مختطفيه، قال أندرسون عن مختطفيه أنهم أعضاء راديكاليين فى حركة أصولية والطريقة التى يفهمون بها دينهم تسمح لهم بذلك التصرف وتبرر لهم ما يفعلونه، ومعناه أن دين الاسلام ليس مسئولا عن تصرفاتهم، ولكن المسئول هى طريقتهم فى فهم الاسلام. ثم يستطرد أندرسون يشرح فيثبت أن القرآن ينكر أفعالهم، ويقول أنه ليس دارسا للإسلام ولكنه قرا القرآن فوجد فيه العدالة والتسامح وأن تلك المضمونات تظهر فيه بوضوح وليست مختلفة عن القواعد الأخلاقية للمسيحية.
5 ـ ولمستر أندرسون اقول أنه وإن لم يكن متخصصا فى الاسلام إلا أنه فهم الاسلام على حقيقته أكثر مما يفهمه أولئك الذين ينتسبون للإسلام وأفعالهم تناقض الاسلام وتجلب له العار..
وأقول له إن إحتجازك رهينة مع زملائك جريمة يرفضها الاسلام، فمهما كان اختلافنا مع دولتك الولايات المتحدة إلا أنه لاذنب لك فى ذلك، والقاعدة القرآنية تقول quot; ألا تزر وازرة وزر أخرى quot; فمن الاجرام أن تؤاخذ بذنب غيرك من الساسة الظلمة وكونك أمريكيا أو حتى لو كنت يهوديا فليس ذلك مبررا على الاطلاق أن يقع عليك ظلم، بل ليس مبررا على الأطلاق لأن نحرمك حقا هو لك، وحتى لو كنت لنا عدوا فإن حقوقك مصونة لدينا إذا كانت لك حقوق عندنا، فهذا مايقرره القرآن العظيم حين يقولquot; ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون 5 /8 quot; .
ولمستر أندرسون أقول أن فى القرآن أعظم رقى حضارى فى الأخلاق والسلوك وإن ذلك لايختلف عن الأنجيل الذى أنزله الله تعالى ولايختلف عن التوراة الحقيقية.. فالدين الذى ينزله الله هو لتقدم البشرية ورقيها ولصيانة دمائها، ولكن للبشر عادة سيئة هى أنهم يتركون التعاليم الألهية خلف ظهورهم ثم ينشئون تشريعا جديدا يمارسون على أساسه الظلم ويسفكون به الدماء. فعل ذلك المسلمون فى حروبهم، وفعل نفس الشئ الأوروبيون حين استعمرونا وهم يرفعون الصليب. ولايزال أولئك وأولئك يفعلون.
وأخيرا أقول لمستر أندرسون أن مختطفيك لم يظلموك فحسب.. وإنما ظلموا الإسلام قبلك.. ويكفيك فخرا لدينا أنك أنصفت الاسلام من أعمالهم.. ويكفيك نبلا أنك صفحت عنهم.. ولو كان لديهم ذرة شرف لكتبوا إعتذارا لك فى نفس المجلة.. وبالنسبة لى فإننى أعتذر اليك عما فعلوا وعما سيفعلون.
6 ـ بورك فيك مستر أندرسون.
ملحوظة:
نشرت هذا المقال جريدة الأحرار بتاريخ : 29 يونيو 1992
التعليقات