بات متوقّعاً أن تشهد السياسة الأميركية في العراق تغييراً ما في ضوء النتائج التي أسفرت عنها الأنتخابات الأميركية. ذلك التغيير هو ما ترمز أليه أستقالة وزير الدفاع رونالد رامسفيلد الذي يعتبر الضحية الأولى لسياسة فاشلة توّجت بسيطرة الحزب الديموقراطي للمرّة ألأولى منذ اثني عشر عاماً على مجلسّي النواب والشيوخ. يعكس ما تشهده الولايات المتحدة هذه الأيّام عدم رضا المواطنين في أيّ شكل عن السياسة المتّبعة في العراق. لكن التغييرالأميركي لن يكون جذرياً، على الأرجح، في غياب القدرة لدى الأدارة في واشنطن على تنفيذ الأنسحاب العسكري من جهة وعدم وجود سياسة عراقية لدى الحزب الديموقراطي من جهة أخرى. كل ما يطالب به الديموقراطيون الذين سيسعون ألى عرقلة مشاريع القوانين التي ستقترحها أدارة بوش الأبن هو الأنسحاب التدريجي من العراق. وهذا يتفق مع طرح مسؤولي الأدارة الذي يتحدّثون عن مثل هذا الأنسحاب ولكن مع الأصرار على رفض تحديد موعد لأنهائه. هذا ما يفترض في بعض العرب الذين بدوا وكأنّهم صاروا أعضاء في الحزب الديموقراطي أستيعابه. فالحزب الديموقراطي لا يمتلك، ألى أشعار آخر، سياسة عراقية.
بين الديموقراطيين القلائل الذين يقولون بعض الكلام المفهوم، النائب نانسي بيلوزي التي يتوقع أن تصير أول أمرأة ترئس مجلس النواب الأميركي. تدعو بيلوزي ألى أنسحاب تدريجي للقوّات الأميركية ينتهي في أواخر العام 2007. ما عدا ذلك، ليس هناك بين الديموقراطيين من يستطيع القول كيف يجب أن يكون التعاطي مع المأزق العراقي وتفاعلاته على الصعد المختلفة بما في ذلك الوضع في الشرق الأوسط وفي البلدان المجاورة للعراق.
ولكن أبعد من نتائج الأنتخابات الأميركية التي أجبرت رامسفيلد على الأستقالة وأفقدت الجمهوريين السيطرة على مجلسيّ الكونغرس، يتبيّن كلّ يوم مدى ضخامة الفشل الأميركي في العراق. أنّه فشل كبير ألى حدّ لم يعد الجمهور الأميركي يصدّق، على الرغم من سذاجته، أيّاً من الحجج التي تلجأ أليها ألأدارة لتبرير العملية العسكرية التي أدّت ألى التخلّص من النظام العائلي- البعثي لصدّام حسين في سياق الحرب على الأرهاب. كلّ ما في الأمر أنّه بعد ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف سنة من الوجود الأميركي في العراق، ليس هناك ما يشير ألى أن في الأمكان أعادة تركيب البلد الذي ارادت أدارة بوش الأبن أن تجعل منه نموذجاً للديموقراطية في المنطقة. لم يعد العراق يصلح سوى لأن يكون نموذجا لكيفية التأسيس للحروب الأهلية ولتفكيك الدول. كان الفشل الأميركي في العراق على كلّ الصعد اللهمّ ألاّ أذا كان الهدف الأساسي والحقيقي من دخول العراق تقسيم البلد ليس ألاّ. عندئذ، يمكن الحديث عن نجاح منقطع النظير في أعادة تركيب المنطقة ورسم خريطتها سياسياً وجغرافياً وأعادة النظر في التوازنات الأقليمية لغير مصلحة الكتلة أو المنظومة العربية.
وبكلام أوضح، يبدو جليّاً أنّ المنتصر الأوّل وغير الأخير من الحرب الأميركية على العراقً كان النظام الأيراني الذي يستطيع اليوم القول أن جزءاً من البلد صار منطقة نفوذ له، أضافة بالطبع ألى أن الحكومة العراقية الحالية لا تستطيع، على غرار التي سبقتها، أن تعصي أمراً يصدر من طهران. كان آخر دليل على ذلك الحكم بأعدام صدّام حسين في هذا الوقت بالذات وفي هذه الظروف بالذات. وأذا كان هذا الحكم في حق الديكتاتور العراقي المخلوع، الذي يستأهلّ ما حلّ به، يعكس شيئاً، فأنه يعكس مدى الأستفادة الأيرانية من الأحتلال الأميركي للعراق ومن المعادلة الجديدة التي قامت في هذا البلد نتيجة الأحتلال. لقد حققت طهران حلمها القديم بالأقتصاص من صدّام، وتمكّنت من ذلك بفضل quot;الشيطان الأكبرquot; الذي ليس معروفاً أين دخلت في مواجهة معه أو أين تجد نفسها في حلف غير معلن معه.
ليست أيران المستفيد الوحيد من المأزق الأميركي في العراق. هناك أسرائيل التي تجد نفسها أكثر من أيّ وقت قادرة على أن تفعل ما تشاء من دون حسيب أو رقيب، خصوصاً في الأراضي الفلسطينية. من سيتجرأ في السنتين الأخيرتين من الولاية الثانية والأخيرة لبوش الأبن على ألأعتراض على أيّ جريمة ترتكبها أسرائيل مثل تلك المجزرة التي وقعت يوم الأربعاء الماضي في بيت حانون في غزّة؟
يبدو الوضع في الشرق الأوسط مخيفاً اكثر من أيّ وقت، في ظلّ المأزق الأميركي في العراق وصعود القوتين غير العربيتين، أي أيران وأسرائيل. وهذا يدفع ألى القول أن رامسفيلد كان ضحية من ضحايا حرب العراق. لكن وزير الدفاع الأميركي مجرّد شخص سيتطيع تدبرّ أموره والذهاب ألى منزله وتمضية آخر أيامه بهدوء. المشكلة من سيدبّر أمور العراقيين الذين لم يعد لديهم بلد... ومن سيدبرّ أمور العرب، خصوصاً أولئك الذين وضعوا كلّ بيضهم في السلّة ألأميركية، والذين بات عليهم العيش قي منطقة تبدّلت فيها التوازنات جذرياً وأفلتت كلّ الغرائز من عقالها.
فشل الجمهوريون في الأنتخابات بسبب العراق. هذا صحيح. ستخرج الولايات المتّحدة من العراق يوماً. هذا صحيح أيضاً. دفع رامسفيلد الثمن، وقد يستقيل مسؤولون آخرون في وقت لاحق. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ أميركا قادرة على أستعادة المبادرة وتناسي العراق ومآسي العراق وتجاوزها، تماماً كما حصل بعد هزيمتها في فيتنام. يظلّ أنّ الثمن الكبير هو ذلك الذي سيدفعه العراقيون ومعهم العرب. من الآن، لا بد من التفكير في مرحلة ما بعد الأنسحاب ألأميركي الذي قد يستغرق سنة أو سنتين أو أكثر. هذا هو الأمر المهم. والأهم منه كيف ستتصرف أيران وأسرائيل في ظل الشعور بقوتّهما المتزايدة والضعف النسبي الذي ستعاني منه أدارة بوش الأبن! الأكيد أن أحتمالات المواجهة مع أيران تظلّ واردة بسبب أصرارها على برنامجها النووي الذي يخيف أسرائيل. أما الدولة اليهودية، فتبدو مطمئنّة أكثر من اي وقت ألى أن الغطاء الأميركي للأرهاب الذي تمارسه متوافر بكمّيات تجارية. السؤال ألى أين سيقود هذا الوضع الجديد المنطقة؟ ألى أنفراج أم أنفجار؟ ألأنفراج أقرب ألى حلم مستحيل من أي شيء آخر والأنفجار كابوس وارد في كلّ لحظة... نتيجة سياسة أتبعتها أدارة أميركية سارت في مغامرة العراق من دون أي معطيات واقعيّة تسمح لها بالتفكير في مرحلة ما بعد سقوط صدّام.
في النهاية، المأزق عربيّ أوّلاً قبل أن يكون مأزقاً أميركياً. ولذلك، يُفترض في بعض العرب الذين يبدون فرحين بتلقي الحزب الجمهوري، على رأسه بوش الأبن، ضربة قويّة التفكير بأستمرار أن الحزب الديموقراطي لم يقم بعد حلفاً مع quot;حماسquot; وأنّ السياسة الأميركية في العراق ستظلّ من أختصاصات الرئيس الأميركي. الفارق الوحيد أن عليه أيجاد قواسم مشتركة مع الأكثرية في الكونغرس من جهة والأستماع ألى نصائح من نوع تلك التي سيقدّمها له شخص مثل جيمس بيكر، وضعه بوش الأبن على الرف فترة طويلة. لا بدّ للعرب الذين يهللون لخروج رامسفيلد من وزارة الدفاع، ألاّ يغيب عن بالهم أن بيل كلينتون بقي منذ العام 1994 حتى العام 2000 يدير السياسة الخارجية الأميركية ويوجهها فيما الكونغرس معاد له!