أثارت مرافعتي الأولى بعنوان (هل يستحق صدام الإعدام؟) التي نشرت في إيلاف يوم السادس من الشهر الحالي، العديد من التعليقات والرسائل التي أيدت في غالبيتها بشكل مطلق الرأي الذي توصلت إليه، بأن صدام يستحق عقوبة الإعدام على ما اقترفه من جرائم فردية و جماعية في الميدان العراقي والعربي والفلسطيني، وقد طرحت تلك التعليقات والرسائل مجموعة من الملاحظات والإضافات التي استدعت هذه المرافعة الجديدة، لأهمية الموضوع كونه يتعلق بحالة الاستبداد والديكتاتورية المزمنة في الحياة العربية التي أعقبت سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول (ص). فماذا في المرافعة الجديدة حول استحقاق صدام لحكم الإعدام بامتياز مع مرتبة الجريمة الأولى؟.

أولا: في الميدان الفلسطيني، لم يكن صدام بعيدا عن محاولات الاتصال بدولة إسرائيل رغم قصف الطيران الإسرائيلي لمشروع المفاعل النووي العراقي يوم الأحد السابع من حزيران 1981، وهو القصف التدميري الذي لم تعلن عنه سلطات صدام إلا بعد أن أعلنت إسرائيل بعد عودة طائراتها سالمة، وتردد آنذاك (وكنت ما أزال مدرسا في جامعة البصرة) أنه لو لم تعلن إسرائيل عن القصف لما أعلنته السلطات الصدامية، وقد كتب تفاصيل العملية عنصر الموساد السابق (فيكتور أوستروفسكي) في كتابه (عن طريق الخداع) الذي صدرت ترجمته العربية عام 1990 عن المؤسسة العربية للدراسات في الفصل الأول من الكتاب الذي أخذ عنوان (عملية أبو الهول) وهو اسم عملية الموساد التي دمرت فيها المفاعل النووي. وبعد ذلك بسنوات كشف الدكتور محمد المشاط سفير العراق في واشنطن عن محاولات صدام استرضاء إسرائيل، فقد كتب في جريدة الشرق الأوسط يقول: quot; إن زيف صدام في دفاعه عن القضية الفلسطينية قد أصبح مكشوفا لي بعد تعييني سفيرا للعراق في عام 1989، إذ قبل مغادرتي إلى العاصمة الأمريكية، استدعاني طارق عزيز وكان وقتها وزيرا للخارجية ليبلغني توجيهات صدام حسين وقال بالحرف الواحد :quot; عليك أن لا تتطرق إلى مشكلة فلسطين وذلك بانتقاد إسرائيلquot;وقال أيضا بما معناهquot; عليك أن لا تتحرش بإسرائيل و الإشارة إلى الأعمال التي تقوم بها ضد الفلسطينيين. ثم أشار إلى أن توجيهات صدام تقضي بالتغاضي عن القضية الفلسطينية والامتناع عن انتقاد إسرائيل. هذا و إن السيد نزار حمدون الذي كان يشغل منصب وكيل الوزارة آنذاك، استدعاني و قدم لي قائمة بأسماء بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي وطلب مني بضرورة الاهتمام بهم و لقائهم باستمرار وتمتين العلاقة بهم مع ضرورة عدم التطرق إلى موضوع إسرائيل خلال أحاديثي معهم كما أكد على ضرورة الامتناع كلية عن توجيه أي انتقاد لها quot;.

ثانيا: في الميدان العراقي، ألم يكن معروفا أن صدام نفسه هو من وقع اتفاقية اقتسام شط العرب مع شاه إيران في الجزائر عام 1977 وأعطى بموجبها للشاه أكثر بكثير مما كان عادة تحت سيطرة إيران من شط العرب، وعقب التوقيع المذكور قام بتسليم كافة أعضاء قيادة الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز لجهاز المخابرات الإيراني (السافاك) وتم إعدامهم جميعا، وكانوا حوالي ثلاثة عشر قياديا، ويعرف هذه المعلومة كافة قيادات المقاومة الفلسطينية الذين كانوا في بغداد. وظلّ صدام ملتزما بالاتفاقية مع الشاه وفور وصول الخميني للسلطة قام بإلغائها من طرف واحد كمقدمة لإعلان الحرب على إيران... والسؤال المنطقيquot; من تعايش مع الشاه واقتسم معه شط العرب، ألم يكن قادرا على التفاهم مع الخميني؟. نعم كان بإمكانه لو كان يريد خدمة وطنه العراق!. إذا لماذا هذا التخريب طوال ثماني سنوات من حرب دمرت البلدين، وما إن انتهت حتى قام بعمله المشبوه المتمثل في احتلال الكويت؟. يجيب على ذلك (ريتشارد سيل) في المقالة التي ترجمها الشاعر العراقي (سعدي يوسف) ونشرها في صفحة (الحوار المتمدن)وأعادت نشرها (إيلاف) يوم التاسع من نوفمبر الحالي بعنوان (عميل منذ نعومة مخالبه)، وفيها كافة المعلومات والتأكيدات على أن صدام كان عميلا للمخابرات المركزية قبل أن يصبح لاجئا في القاهرة عام 1960 بعد فشل محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في أكتوبر عام 1959، وكل ذلك بعلم المخابرات المصرية وهي التي قامت بتهريبه من العراق إلى سورية ثم بيروت ومنها إلى القاهرة وأيضا بعلم جمال عبد الناصر، منذ أن كان يتولى أموره المالية في بغداد النقيب عبد المجيد فريد مساعد الملحق العسكري المصري في بغداد آنذاك.

ثالثا: العديدون يؤيدون استحقاق صدام للإعدام وتحفظهم نابع من أن الإطاحة به تمت عن طريق قوات التحالف وليس الشعب العراقي، وهو تحفظ عاطفي يمكن فهمه واحترام مشاعر أصحابه، ولكن أليس نعمة كبرى للشعب العراقي على الأقل أن هذا الطاغية تم التخلص منه، أما الاعتماد على الشعوب العربية في التخلص من المستبدين والطغاة العرب فهو أمر ميئوس منه لأن هؤلاء الطغاة صناعة عربية بامتياز من خلال خنوع شعوبهم وهتافها للطغاة (بالروح بالدم نفديك يا....)، ولم نسمع عن مظاهرة عربية واحدة خرجت تهتف (بالرود بالدم نريد حريتنا وكرامتنا)، وقد أسهم في خلق هذه الصناعة العربية قطاع واسع من الكتاب والصحفيين والشعراء، باعوا ضمائرهم وشعوبهم لهؤلاء الطغاة وكتبوا فيهم الكتب والأشعار التافهة التي من المؤكد أن هؤلاء الكتبة يخجلون منها بعد أن زال ولي نعمتهم وظهرت جرائمه للعيان!!.

رابعا: نعم إن المعلومة الخاصة بأن الصواريخ التي أطلقها على إسرائيل عقب احتلاله المشين لدولة الكويت كانت خالية من المتفجرات معلومة مؤكدة، ويمكن سؤال عرب إسرائيل عنها الذين زاروا المواقع التي سقطت فيها وكلها في صحراء النقب شبه الخالية من السكان، والدليل أيضا أنها لم تقتل أي إسرائيلي وأكدها الدكتور محمد المشاط في مقالته المذكورة سابقا.

خامسا: يرفض البعض حكم الإعدام على صدام متذرعين بالنفس الطائفي المرفوض وهو حسب قولهم أن الذين يؤيدون إعدامه هم شيعة وأكراد العراق، وأن غالبية السنّة يرفضون ذلك!. ورغم عدم قناعتي بالتقسيم الطائفي إلا أن المنطق يستدعي الرد القائل: جيد... ألا يشكل الشيعة والأكراد ما مجموعه على الأقل ثمانين بالمائة من الشعب العراقي؟ وما هي الديمقراطية؟ أليس السماع لوجهة نظر الأغلبية؟ هذا في حين أن المراقب الواعي لا يتذكر سوى مظاهرة محدودة في بلدته تكريت ضد حكم إعدامه!!. رغم أن الوقائع تثبت أن جرائم صدام شملت كافة الأعراق والطوائف والقوميات في العراق.

اعتمادا على هذه المرافعات الجديدة، أعتقد أن هذا الطاغية يستحق الإعدام أيا كان من أسقطوا نظامه المجرم وأية محكمة أصدرت الحكم ومن سينفذ الحكم، فنعمة لا مثيل لها التخلص من طاغية قاتل كي لا يصمد قول الشاعر الجواهري (.. وأعمار الطغاة طوال)، رغم أن هذا الطاغية ظل يقتل طوال ما لا يقل عن ثلاثين عاما، وما زال في عالمنا العربي طغاة آخرون نتمنى أن يزولوا على يد شعوبهم كي لا نستمر في انتظار سقوطهم على يد القوات الأجنبية أو ملك الموت عزرائيل... فأشرف لنا وأحفظ لكرامتنا أن نتحرك رفضا لهؤلاء الطغاة فهم ليسوا أقوى من المجرم شاه إيران ولا من سفاح رومانيا تشاوشيسكو، فقط الشعوب العربية أكثر استكانة وقبولا للظلم من غيرها من الشعوب... والله المستعان!
ahmad64@hotmail.com