قبل إلقائه خطابه الشهير في أريحا أواسط الستينيات من القرن العشرين، كان للرئيس الحبيب بورقيبة، لقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر.
و تذكر بعض المصادر الموثوقة بصدد هذا اللقاء، أن عبد الناصر كان مقتنعا خلاله بوجهة نظر بوقيبة في القضية الفلسطينية، التي تقول بمبدأ quot;خذ وطالبquot;، غير أنه أخبر نظيره التونسي quot; إن قلت هذا الكلام علنا، فإن الشعب سيجن (حيتجنن)quot;، ودعا إلى أن يبادر هو إلى قوله على أن يضمن له عدم مهاجمة الصحف المصرية له، و أن لا ينقلب عليه شخصيا، إلا أن ما جرى لاحقا كان خلاف ذلك تماما، فقد استباحت وسائل إعلام quot;أحمد سعيدquot; عرض الرئيس بورقيبة، و لم يتردد عبد الناصر في أن يلعنه علنا على مسمع ومرأى الجماهير العريضة.
الرئيس بورقيبة كان يرى أن من واجبه الارتقاء بمستوى الجماهير لفهم حقائق الأمور السياسية والدولية، ليس استجابة لمنطق انهزامي كما يصور المزايدون والشعاراتيون العرب، إنما التزاما بمتطلبات المسؤولية القيادية، التي تقتضي إلى جانب مراعاة المصالح العامة، توعية الناس وتنمية قدراتهم التحليلية وتقوية النزعة العقلانية لديهم، لا دغدغة عواطفهم واستغلال مشاعرهم وهدر طاقتهم في الاتجاهات الخاطئة.
لاحقا ستثبت الوقائع والأحداث صدق الرؤية البورقيبية وتهافت الرؤية الناصرية، فقد اكتشفت الجماهير quot;التي جرى مغالطتهاquot; حقيقة الأمر إثر الهزيمة النكراء التي جرت في يونيو 1967، بينما ستعود حركة التحرر الوطني الفلسطيني بعد ما يزيد عن العقدين لتبني نظرية quot;خذ وطالبquot;، لكن بعد أن تغيرت الكثير من المعطيات لغير صالح الشعب الفلسطيني، وبعد أن ضيعت الكثير من الأموال والأرواح، كان بالمقدور توجهيها بطريقة أفضل لو كانت السياسة العربية طيلة عقدي الخمسينيات والستينيات بورقيبية لا ناصرية.
يقال إن العرب قوم يحبون من يكذب عليهم، أو من quot;يتجملquot; مثلما جاء في عنوان الفيلم المصري الشهير quot; لا أكذب لكني أتجملquot;، فالواقعيون والعقلانيون والصرحاء عادة ما يصورون في اللغة السياسية العربية السائدة على أنهم خونة وعملاء وانهزاميون، أما الشعاراتيون والخطابيون والانقلابيون فأبطال وعظام ومقاومون، ولهذا فقد كان لدى العرب قدرة فائقة - تفتقدها سائر شعوب الأرض- في الاستجابة لأجيال الشعاراتيين المتتالية، بمصادر متباينة للشعارات والخطابات، من ثورية اشتراكية، إلى قومية ناصرية وبعثية، إلى إسلامية إخوانية وبن لادنية وخمينية، لا يملونها ولا يكفون عن استهلاك المخدرات المنتجة من خامها.
المسؤولية لا تقع بطبيعة الحال على الشعوب فقط، إنما بدرجة أكبر على النخب الثقافية والسياسية، التي تصر غالبيتها على الربح السريع حتى وإن كان مدمرا، بدل الربح الحقيقي الذي لا يمكن إحرازه إلا في المدى الطويل وبعد بذل الكثير من العناء والتضحيات، فالشعوب صناعة أيضا، لا الحكومات والدول فقط، ومثلما تصنع الشعوب قادتها، فإن بمقدور القادة، ساسة ومثقفين، أن يصنعوا شعوبهم.
تبسيط المشكلات المطروحة من أخطر أنواع الكذب، وعندما ترفع تيارات سياسية عريضة شعارات تنشر الكسل الفكري والسياسي بين الناس، وتصور حلول القضايا المعقدة رهينة بضع كلمات، فإنها بذلك تخدع شعوبها وتخدرها وتعمق أزماتها، بدل أن تبصرها بحقائق هذه القضايا، وبما يتطلبه حلها من عمل مضني ومعقد وجماعي على مدى عقود، يقتضي من الجميع صبرا ومثابرة.
اكتشف العرب طيلة العقود الماضية زيف الشعارات الثورية والاشتراكية الشمولية، عندما قادتهم تجارب الثوريين الغيورين على الفقراء إلى مزيد من الفساد والفقر والاستبداد، كما اكتشف العرب أيضا زيف الشعارات القومية العربية على الطريقة الناصرية والبعثية، التي عوض أن تقود العرب إلى التقارب والتضامن، قادتهم إلى مزيد من الفرقة والتشتت والتناحر، ويواجه العرب اليوم حزمة جديدة من الشعارات التبسيطية الزائفة، القائمة هذه المرة على الإسلام باعتباره دينا ودولة.
ويرفع الإسلاميون، على غرار من سبقهم إلى العرب بشعارات شمولية فضفاضة، حلولا بسيطة لقضايا إشكالية غاية في التعقيد والاستعصاء والغموض، فالبطالة والفساد والديكتاتورية والأمية والتخلف العلمي والتقني والركود الاقتصادي والتضخم المالي والظلم الاجتماعي، كلها مشكلات ستنتهي عندما يكون quot;الإسلام هو الحلquot;، أما مضمون هذا الإسلام وكيف سيحل عمليا هذه القضايا المطروحة، فمسائل مؤجلة إلى أن يصل quot;الإخوة الأتقياء والأطهارquot; إلى الحكم، على الرغم من أنهم وصلوا في بعض البلدان فعلا ولم يحلوا شيئا، بل زادوا الطين بلا.
الإعلامي المصري البارز عماد الدين أديب، سجل في برنامج تلفزيوني أذيع مؤخرا، عبارة من ذهب، يجب التوقف عندها في رأيي مليا، فquot;نفاق الجماهير أخطر من نفاق الحكامquot; فعلا، لأن نفاق الجماهير يعني تدمير المستقبل، الذي هو مناط الأمل، أما نفاق الحكام فلا يقنع أحدا بما في ذلك المنافقين أنفسهم، ولا ينسحب إلا على حاضر متعثر لا تعمق أزمته الكلمات البائسة إلا لماما.
الفرق بين نفاق الجماهير ونفاق الحكام، أن الأول يحتقر عقول العامة ويعطل قواها عن الحركة ويمنع توجهها إلى المجالات الحقيقية التي تستدعي اهتمامها وانخراطها في مشروع تغييرها، بينما يمكن أن يستبطن الثاني احتقارا للحكام الفاسدين الذين يستحقون الاحتقار فعلا من مادحيهم، وكثير من المداحين من الغباء وضعهم في خانة الجاهلين، حيث يرغبون في قول عكس ما يشنفون به آذان أسيادهم تماما، و اللوم كله على حاكم يصدق كلام المتملقين والمتزلفين.
نفاق الحكام يجلب الذلة والاحتقار غالبا، فالممدوح ليس شمسا يمكن أن تبزغ على المادح أينما حل وارتحل، ولهذا فإن منافقي الحكام غالبا ما لا يقدرون على العيش بين الناس كثيرا، أما منافقو الجماهير، فيبدون أبطالا وملوكا غير متوجين، يرفعهم الناس على الأعناق تقديرا واحتراما، على الرغم من أنهم يستحقون محاكمة تساويهم بتجار السموم والمخدرات، فهم أيضا تجار سموم الوعي المغشوش ومخدرات الشعارات السياسية والدينية والقومية المخادعة.
لقد قال أحمد بن صالح السياسي والوزير التونسي الكبير في عقد الستينيات عبارة أضحت ذائعة بعد رحيله عن السلطة، quot; أنه لا يخشى شعبا متعلما يحاسبه، بقدر ما يخشى شعبا أميا لا يفهمهquot;، و حقيقة الأمر أن التيارات الشمولية العربية المتعاقبة على الشعبية، وآخرها الحركات الإسلامية، لا تفعل شيئا بقدر ما تجدد شباب الأمية الفكرية والسياسية بين الناس، كلما لاح في الأفق أمل للقضاء على هذه الظاهرة التي جعلت العرب استثناء في العالم، وجعلت العالم العربي دون غيره من بقاع الدنيا مستعصيا على الإصلاح والديمقراطية والحداثة.
إن الدارج عربيا اتهام الأنظمة والحكومات بأنها تتصرف في أوطانها كحظائر حيوانات، والصحيح أن الأنظمة ليست وحدها من يمارس هذا السلوك المشين، ففكر القادة الملهمين والمشائخ المعصومين لا يكرس غير واقع الشعب القطيع والمواطن الرعية الذي يجب أن يسمع فيطيع، إما حاكمه خوفا وطمعا، أو شيخه باعتباره مريدا ينشد البركة والمغفرة، أما المواطن الذي يفكر وينقد ويحتج ويعبر عن رأيه الشخصي بشجاعة فخطر على مصالح الحكام والمشائخ معا.
الشعبية الناتجة عن دغدغة ونفاق الجماهير، ليست الشعبية المرجوة التي يمكن أن تبني حضارة أو حداثة أو إصلاحا أو ديمقراطية، وتحصيل الأصوات بالاعتماد على الشعارات البراقة الخادعة أو التواكل على الآيات والأحاديث القابلة للتأويل والتفسير على أكثر من وجهة، ليس إلا تمديدا للأزمة واستغلالا فئويا سيئا لها، إذ قد يكذب المرء على الناس مرة لكنه لا يستطيع أن يكذب عليهم كل مرة، حتى وإن كان هؤلاء الناس عربا يعشقون من يبيعهم الأوهام ويعدهم بمفاتيح الجنة في الآخرة، باعتباره وسيطا مباركا لدى صاحب الدنيا والآخرة.

كاتب تونسي