يبدو حال الفلسطينيين هذه الأيام، أقرب ما يكون إلى حال السفينة الجانحة. سفينة لا بد لها من مساعدة الآخرين، لإخراجها مما هي فيه. وما لم تأت هذه المساعدة، وعلى نحوٍ عاجل، فلا أمل في النجاة أبداً. ليس فقط لأنّ أصحابها فاقدو القدرة على إنقاذها، بل لأنهم أيضاً، لا يريدون ذلك. إنهم عالقون، يراوحون في منطقة الصفر الرياضي والعجز الفيزيائي عن اجتراح أي حلّ لأزمتهم الداخلية. ثمانية شهور وهم في مكانك قف. ثمانية مرشحة لأن تصل إلى أربع سنوات. حتى يحين موعد الانتخابات التشريعية القادمة. كل مباحثاتهم البينية فشلت. كلها وصلت إلى [طريق مسدود] حسب تعبير رئيسهم أبو مازن. أبو مازن الموضوع في مكان يُحتّم عليه اتخاذ قرار مصيري، ولكنه محتار. فلا خيارات أمامه في الحقيقة، لكي يختار. فجميع الخيارات خطرة وحساسة وبالغة الحرج، بل جميعها [أحلاها مُرّ] لأنها جميعاً تقريباً، تؤدّي إلى اشتعال الحرب الأهلية، أو أدناه، الاقتتال الداخلي . هو يعرف ذلك جيداً. ثم إنه ضعيف وبلا سند. وقبل كل شيء، هو يعرف جيداً موازين القوى الداخلية، وعليه، فهو يعرف أنه لو اتخذ قراراً بحل حكومة حماس، مثلاً، وتشكيل حكومة طوارئ لمدة سنة، ثم الدعوة إلى انتخابات جديدة، كما يطالبه بهذا الكثيرون من قيادات فتح، فإنّ ردّ حماس هو المواجهة. والمواجهة ليست في صالح تنظيم فتح بأي حال. فحماس، على الأقل في قطاع غزة، هي الأقوى، كما أنها ليست ضعيفة أيضاً في الضفة. هذا بحساب معادلات الربح والخسارة. لكنما أبو مازن له حساب فوق هذا الحساب: حساب رجل الدولة: وهو ألا يكتب عنه التاريخ، أنه اتخذ قراراً ذات يوم، كانت نتيجته حرباً أهلية فلسطينية تأكل الأخضر واليابس. أظنّ هذه هي الفكرة - مربط الفرس في أفكار هذا الرجل. الفكرة التي تؤرّقه، وتشكّل له كابوساً في المنام واليقظة. فماذا على الجانب الآخر، جانب حماس وحكومة حماس ؟ حماس تقول إنها جاءت بإرادة شعبية ولم تأت لتحكم على ظهر دبابة. وما دامت جموع الشعب هي التي انتخبتها، في عملية اقتراع شفافة جداً، فلا أحد يمتلك إنزالها عن كرسي الحكومة، تحت أية ذريعة، حتى ولو كانت ذريعة الحصار وجوع غالبية الشعب الفلسطيني تحت إدارتها. فهي لا ذنب لها في ذلك، بل كل الذنب يقع على كاهل العالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي. الوضع لا شك معقّد وشديد التعقيد. فهذا الطرف له حججه وذاك له حججه كذلك. وما بين الطرفين ضاعت غالبية الشعب، بين حانا ومانا. وبين حانا ومانا لا حل ولا أمل في حل. السفينة تغرق، والعالم يتفرّج، والمأساة الفلسطينية تحوّلت من قضية سياسية بالدرجة الأولى إلى حالات إنسانية من الدرجة الثالثة. والداخل الشعبي والنخبوي، منقسم في سجالات القبائل، هذا يؤيد وهذا يعارض، ولا شيء أبعد من ذلك. فتح التي لم تغيّر من بلاويها شيئاً، ولم تأخذ العبرة من سقوطها المدوي، ما زالت على خطابها القديم وكليشهاتها. وحماس تصرّ على استفرادها في سلطةٍ، لم تكن تحلم بها ولا حلُمَ بها الإسلام السياسي العربي، فإذا بها تأتيها على حين غفلة. فكيف لها ألا تتشبث بها بالنواجذ، حتى لو جاعت غالبية الفلسطينيين ؟ إنها لعبة الكرسي أولاً وأخيراً. فالكرسي غال بل أغلى شيء في مخيال العرب وفي واقعهم. سواء كانوا أشباه علمانيين أو أصوليين. وشهوة السلطة أقوى شهوات العربي جميعاً - أقوى من شهوة البطن وشهوة الفرج. لذا لا حلول ولا أمل في حلول قريبة. حماس واثقة من ولاء جماهيرها لها ومن صلابة هذه الجماهير وقت الحاجة. وأبو مازن يراهن ربما على مرور الزمن، وتحرّك الناس الذين ضُربت مصالحهم في الصميم، ففقدوا حتى لقمة عيشهم وكفاف يومهم. لكنّ مراهنة أبو مازن، على الأغلب بلا طائل. فها هي حكومة حماس، استطاعت بذكاء الالتفاف على إضراب المعلّمين، ووصلت مع قياداتهم إلى حلول توفيقية وترقيعية، فعادت المياه إلى مجاريها، وانتهى الإضراب الكبير. فإذا كان قطاع التعليم، وهو أكبر القطاعات الوظيفية عدداً، انتهى تقريباً، فعلام يراهن الرئيس ؟ على صغار الموظفين في القطاعات الحكومية الأخرى ؟ هؤلاء تكفّل بهم الاتحاد الأوروبي. فأعطى لكل موظف يقل راتبه الشهري عن 2500 شيكل، منحة شهرية بمقدار 1500 شيكل، وبذلك نزعَ الاتحاد الأوروبي [ ومعه إمارة قطر التي دخلت على الخط، بوعدها بتوفير رواتب لأربعين ألف موظف ] فتيلَ التمرّد لدى هؤلاء. إذ لم يبق في الحقيقة بلا رواتب غير فئة الموظفين الذين تتجاوز رواتبهم ال 2500 شيكل. وهؤلاء بدورهم لا يشكّلون أكثر من 30 % من مجموع موظفي القطاع العام. إنهم هم فقط المتضررون من وطأة الحصار، فهم على سبيل المثال، لم يتقاضوا منذ أول رمضان سوى 1000 شيكل فقط. أي عملياً لم يتقاضوا حتى أجر مواصلاتهم إلى مقرات أعمالهم. وهؤلاء لا يمكن التعويل عليهم في التحرّك والإضراب، فهم فئة أقلية، وهم [ أيتام النظام السابق ] كما تنظر لهم بعض شرائح حماس. ولا أحد معني بأيتام ذلك النظام ! هذا هو حالنا في الداخل. بعيداً عن الجوانب السياسية وتطورات الأحداث. سبعون في المئة تقريباً من الموظفين حصلوا على ثمانين في المئة من مستحقاتهم. فماذا يفعل أبو مازن ؟ ثم إنّ الناس تعوّدت وتكيّفت، حتى صار وضعها غير الطبيعي، طبيعياً وعادياً في نظرها. فعلام يراهن مرة أخرى السيد عباس ؟ أقول له ابحث لك عن مراهنات أجدى نفعاً. فشعبك الذي انتخبك على برنامج سياسي جانح للسلام، هو ذاته الذي انتخب حماس على برنامج سياسي جانح [ للمقاومة والجهاد ]. هو ذاته الذي أوقع نفسه في هذه الورطة. وهو ذاته الذي بدأ يتعايش ويتكيّف مع ثقافة الكوبونات وفتات الرواتب. لذا لا مراهنة عليه، ولا أمل. فالمراهنة والأمل تقع على عاتق مَن يتمتع بوعي سياسي وتاريخي ومجتمعي، وكل هذه الضروب من الوعي مفقودة لدى شعبك. لذا هو يجوع، ويظنّ أنّ هذا هو ثمن صموده أو قدره المقدور. فهو، حتى لو ذهب إلى الانتخابات، شكلاً، لا يعرف ما له من حقوق على حاكميه، مضموناً. هو يعرف واجاباته فقط: يعرف أن يموت ويستشهد. أما حقوقه، فمسألة تحتاج إلى تربية وتعليم وثقافة وصيرورة تاريخ بأكمله. تاريخ لم يقترب منه نظام فتح السابق، بل تجاهله، وبدلاً منه، حوّل الشعب إلى أسوأ الثقافات: ثقافة تقديس الصنم والاستزلام والمافيات والمحسوبية وقوة الذراع. لهذا لم يبق لديك من فسحة إلا فسحة الحوار ثم الحوار ثم الحوار مع حماس الأصولية علّها تعطيك بعض ما ترغب ! إنها لعبة الكراسي، ولا شيء أبعد من ذلك. لعبة الكراسي والمراهنة على تحالفات الإقليم والارتهان لها، مع إدارة الظهر لمصالح الكل الفلسطيني، ولمفهوم الشراكة السياسية، ولاستقلال القرار الوطني. فالمهم هو الكرسي والبقاء فوقه أطول وقت ممكن. والتفرد في الحكم، ولو على حساب أمور مصيرية كثيرة. لذا لا مانع من تفاهمات مع هذا الطرف أو ذاك، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، فوق الطاولة أو تحت الطاولة. فالمهم هو النتيجة. وأظنّ أننا على أبواب صفقة ما، تجري فصولها في السر، وبمشاركة أطراف إقليمية، لكي تزول حدة هذا الحصار بالتخفيف الكبير منه، مقابل بقاء حكومة حماس في الحكم، ومقابل تثبيت الهدنة ووقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وإطلاق سراح غلعاد شاليت. فهذا ما يهمّ إسرائيل حقيقةً، وهذا كذا يروق في عيني حماس. فإن لم تكن معلوماتنا صحيحة، ومجرد تقوّلات إعلامية، فالأرجح أن يبقى الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر. أو حتى يصل فارضُ الحصار، إلى قرار بتخفيف هذا الحصار. أي بإعطاء الفلسطينيين، ما كان يعطيهم إياه بعد عام تهجيرهم الكبير. بعض المال لتوفير بعض مستلزمات الحياة لا أكثر ولا أقل. وللأسف فالاتحاد الأوروبي يفعل هذا الصنيع، و كذلك ستفعله قطر في القريب العاجل. بما يعني بقاء حماس في السلطة بلا شراكة مع أحد. واستمرار الوضع ربما، كما قلنا في أول المقال، إلى استيفاء المدة القانونية والدستورية لحكومة حماس وهي مدة الأربع سنوات. وبذلك يتكرّس وضع اجتماعي ونفسي، ناهيك عن السياسي، يبدو فيه المواطن الفلسطيني، في الضفة والقطاع، وفي مطالع ألفيّة البشر الثالثة هذه، ك [ الحيوان البائس المجروح والمخنوق ] بلغة شكسبير وهو يتأمل أحوال وأوضاع البشر في أزمنتهم العتيقة، و.. الحديثة أيضاً!