جرى قبل 15 عاما في 8 كانون الاول ( ديسمبر) في مزرعة الصيد التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي quot;فيسكوليquot; في بيلاروسيا توقيع زؤساء روسيا وبيلاروسيا واوكرنيا ( السوفياتية حينا) بعجلة على اتفاقية بيلوفيجيسكايا اعلنت انهيار الاتحاد السوفياتي. وحينها لم يستوعب ولم يلاحظ المواطنون السوفيات الذين كانوا يقفون في الطوابير الطويلة يعتريهم القلق من اطلاق الاسعار في 1 كانون الثاني ( ديسمبر) ،الحدث الكبير. ولم تشهد شوارع موسكو غير تظاهرة صغيرة للحزب الديمقراطي الذي تزعمه نيقولاي ترافكين دفاعا عن الاتحاد السوفياتي.وتستعيد روسيا اليوم بمشاعر متباينة ذكرى مرور 15 عاما على انهيار الاتحاد السوفيتي. البعض ينظر بالم وحسرة على غروب الامبراطورية السوفياتية ويشعر بالحنين لها خاصة من ابناء الجيل القديم والشرائح الفقيرة في المجتمع، واخرون يعدونه حدثا تاريخيار كبير وانعطافا حادا نحو ولادة جديدة لروسيا الديمقراطية والحرة .ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه quot;اعظم كارثة جيوبوليكية للقرن العشرين.quot; وقال بوتين quot;إن إنهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 يشكّل quot;دراما حقيقيةquot; تركت عشرات الملايين من الروس خارج الاتحاد الروسيquot; فيما وصفه الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي بانه quot;اسعد حدث بحياتهquot;.

والسؤال الرئيسي يدورالان عن من هم الخاسرون ومن هم الرابحون من انهيار الاتحاد السوفياتي بعد مرور 15 عاما على انهياره. ومن دون شك فان انهيار الاتحاد ترك تداعياتها الخارطة السياسية في العالم برمته، ونجم عنه تغير في موازين القوى الدولية، وظهرت دول جديدة وانقرضت اخرى واندلعت حروب وهزات اجتماعية واشتدت النزاعات القومية والاقليمية. ونفح انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية الامر رياح التغيير على امل ان يصبح العالم اكثر سلاما وديمقراطية وان تُحترم حقوق الامم والاشخاص. وفي روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي عقدت الامال ايضا على ان التخلص من النظام الشمولي ومركزية الاقتصاد سوف يطلق حرية الابداع الفردي ، ويوفر الاجواء المناسبة لممارسة الانسان حريته الخلاقة وتجسيد خيارته، ولن يتطاول احد بعد على حرية العقيدة والضمير والافكار. وظهر حينها ان القضية لاحت وكان هناك صفقة تاريخية تقوم على التخلي عن شعار العدالة الاجتماعية الذي جسدته الاشتراكية السوفياتية بصيغة مشوهه جدا، مقابل المتمع بالحرية. والرهانات كانت كبيرة.

ان العالم بعد اندثار الاتحاد السوفياتي تغير حقا. ولكن من المستحيل القول انه تغير نحو الاحسن. فالشعوب الفقيرة اصبحت اكثر فقرا وفقدت دول العالم الثالث ( الدول النامية) الاستقرار للابد، وتمخض التحول والانعطاف الحاد عن مظاهر وتحديات باتت تهدد الوجود البشري، وتعمق الصراع بين الحضارات والاديان واشتدت المشاعر القومية لتقترب اكثر نحو الشوفينية وانتشر الارهاب والاغتيال السياسي والتطرف، وعادت الدول الى اساليب القرون الوسطي لحماية امنها فبنيت الاسوار حول المدن. وتتبارى الدول بصورة خفية او علنية على امتلاك اسلحة الدمار الشامل. وتفشت الانانية في العلاقات الدولية وتهمش دور المنظمات الدولية. وتلوح الخارطة السياسية التي يهمن عليها طرف واحد بانها تنذر بفواجع اجتماعية واقتصادية ونشوب حروب وصراعات. وهذا دون شك كان نتيجة منطقية للخلل الذي اصاب المنظومة الدولية التي كانت تقوم على قوتين عظميين، انقرضت احداهما. وبالتدريج عادت في غالبية جمهوريات الاتحاد السابق تقاليد النظام الشمولي وبنيت ديمقراطية شكلية، تتحرك على خلفيتها انظمة دكتاتورية.

وانحدرت بفعل انهيار الشعوب شرائح واسعة سواء في افضاء الاتحاد السوفياتي السابق او في داخله الى ما بعد خطوط الفقر، وكان هذا سببا كافيا للهزات الاجتماعية وانتشار الجريمة والفساد الحكومي وانهيار الاخلاقيات، وتلف مصائر بشرية، وترك كل ذلك بصامته الواضحة على الانشطة البشرية بما في الانتاج العلمي والادبي والفني عموما. ولفظت المعامل والمؤسسات الكبرى على قارعة الطريق غالبية العاملين بها بعد ان توقف هديرها. ولم يبتعد الاديب والمفكر الروسي الحائز على جائزة نوبل للادب الكسندر سولجينيتسن عن الحقيقة حينما قال ما معناه ان معارضي النظام الشيوعي توقعوا تداعيات سلبية جراء تصفيته، ولكنهم لم يحسبوا ان الانهيار سيكون بهذا الحجم.

وخلق غياب الدولة العظمى التي كان اسمها الاتحاد السوفياتي، واقعا جديدا في مجال الحريات والدفاع عن حقوق الانسان، ومشاركة المواطن في بناء مؤسسات الدولة. حقا ان ان ذلك التطور في احيان كثيرة ياخذ طابعا شكليا محضا، ولكن في كل الاحيان هناك فسحة وهامش من الحريات التي قد تتسع اكثر في المستقبل او يمكن الافادة منها الان لفضح جرائم السلطة وتطاولها وممارستها الفساد الحكومي. هناك قدر من الشفافية. ان العالم الجديد لن يولد مرة واحدة انه مخاض عسير وولادة طويلة. لقد تمكنت الشريحة الاكثر نشاطا ومبادرة من اغتنام الفرصة السانحة وغياب الدولة من الاثراء على حساب الجمع الغفيرة المغيبة، فظهرت شريحة الاثرياء بشكل فاحش، واصبح بمقدور الفرد في تلك الدول التي عانت شعوبها من شمولية الانظمة ان يبادر ويتحرك من اجل تحسين وضعه المعيشي وتجسيد طاقاته. حقا ان كل هذا مازال صعيفا في بعض الدول.

ويقول البعض ان انهيار الاتحاد السوفياتي كان مسالة حتمية لعدم قدرة نظامه على مواجهة التحديات الاقتصادية، وييذهب اخرون الى ماساة تكمن في وجود قيادة وصولية حينها ، على راسها ميخائيل غورباتشوف وفريقه. ولو توفرت لديهم الارادة السياسية الكافية لقضوا على تمرد الزعماء الثلاثة الذين وقعوا اتفاقية تفكيكه. ولكنهم لم استسلموا دون اطلاق رصاصة واحدة.

ان تحديث الاتحاد السوفياتي على كافة المستويات كانت دون شك مسالة مطلوبة، بيد ان زعامته التي كانت تتالف من الحرس القديم، تخلفت عن الزمن وعاشت في عالم اخر لايمت بصلة للشارع، وخلقت لها اسطورة باهتة عن الاقتصاد المتطور والاقتراب من الشيوعية وتعفن النظام الراسمالي، فمهدت لانهيار البلد. كان من الممكن البقاء على الاتحاد السوفياتي وتحديثه اكثر، ولكن الرياح مضت حيث لاتشتهي السفن. فلاح انهياره صفقة تداخلت فيها عوامل داخلية وخارجية وخرج منها خاسرون ورابحون.