لبنان هو أحد البلدان النموذجية التي تتجسد فيها التأثيرات القاهرة للجغرافية السياسية ( الجيوبولتك ) حيث غالباً ما ذهبت تضحيات اللبنانيين الكبيرة هدراً في اللحظة التي تبدو فيها الأمور قد اقتربت من الحل!! هذا ما تكرر مراراً خلال العقود الأخيرة، وكان آخرها عندما استطاع اللبنانيون تحويل استشهاد الرئيس رفيق الحريري إلى محطة انتقال نوعية للتخلص من كابوس احتلال النظام السوري وتدخلاته المعروفة سياسياً وأمنياً. ولكن قوة تراكمات الماضي وفعلها المباشر وغير المباشر بدت وكأنها تشد الأحداث إلى الخلف كي تعود إلى المربع الأول، لكن الأمر ليس بالسهولة التي تتصورها الجهات المستفيدة من محاولات العودة إلى الوراء.

ونقصد بتراكمات الماضي، أن الجغرافية السياسية التي ظلت باستمرار تفرض على دولة صغيرة كلبنان أن تتحول إلى أسفنجة سياسية لامتصاص نتائج الصراع بين الدول الأكبر والأقوى التي تحيط به، وما يزيد الطين بلة هو أن تلك الدول رهينة بدورها لتجاذبات دولية أكبر ما يجعل من الصعوبة حسم الصراع لمصلحة هذه الدولة أو تلك. أن استمرار المشاكل معلقة بين سوريا واسرائيل وتحريكها بين وقت وآخر صعوداً وهبوطاً وفقاً لمصالح أو تجاذبات لا علاقة لها بلبنان بالضرورة، ظل ينعكس دائماً وبشكل سلبي على الحياة السياسية اللبنانية التي يعوزها الاستقرار اصلاً.

وإذا كان الصراع مع أسرائيل بحروبها ومخططاتها المعروفة التي جعلت لبنان يعيش تحت حالة من التهديد شبه الدائم، فإن النظام السوري وتدخلاته المعروفة في لبنان، لم يبدِ أية جدية في صراعه مع إسرائيل منذ 1973 بينما أفتقرت أساليب تعامله مع اللبنانيين إلى المعايير الأخلاقية مستخدماً كل قدراته للتدخل في شؤونهم الداخلية مستعملاً الشعارات القومية لابتزاز المجتمع السياسي اللبناني عموماً وتلك القوى التي لم تستطع الخضوع لدباقته السياسية خصوصاً.

أن صراعاً سيئاً كهذا أسوأ ما فيه هو عدم وجود توقعات ممكنة لنهايته في المستقبل المنظور، ما يعني استمرار لبنان في تلقي نتائجه السلبية لوقت أطول، والأكثر سوءاً هو أن انعكاسات هذا النمط من الصراعات الاقليمية والدولية على حياة اللبنانيين جعلها أكثر صعوبة وقلقاً، وأدى ومنذ فترات طويلة إلى اندفاع احزاب أساسية للارتباط بهذه الدولة أو تلك وبدرجات متفاوتة، دون أن تنتبه تلك الأحزاب إلى كون علاقة حزب من بلد معين بدولة أخرى لن تكون نتيجتها النهائية إلا لمصلحة تلك الدولة، وبتراكم الأحداث والسنين، أصبح من الصعوبة على تلك الأحزاب أن تتخفف من تلك العلاقات حين يُصبح التخفف منها ضرورياً، لأنها في الأساس علاقات غير متكافئة بل وغير متعارف عليها خارج لبنان إلا نادراً أو في حالات استثنائية. أن أرتباط أي حزب في بلد معين بدولة أخرى ستكون نتائجه دائماً لمصلحة تلك الدولة التي ستعمل بكل ما تستطيع لجعل ذلك الحزب تابعاً لها أو خاضعاً لإرادتها التي قد لا تتطابق بالضرورة مع إرادة الدولة اللبنانية أو مصالح المجتمع اللبناني.

كثيراً ما حدث أن استقوى هذا الحزب أو ذاك بالدولة التي يرتبط بها على حساب الأحزاب اللبنانية الأخرى، معتبراً أن رصيده المكتسب من الخارج هو أداته لدخولة اللعبة السياسية المحلية، وبالتراكم أصبحت اللعبة أكبر من اللاعبين!!
أن هذه الحالة لا يمكن وصفها بأقل من مأساة سياسية، وهي في الواقع ما يُبقي الأمور معلقة وصعبة الحل، بل هي ما يشد الأمور إلى الوراء كلما لاح حل في الأفق.
أن هذه المأساة التي يعيشها المجتمع السياسي اللبناني غالباً ما تتم تغذيتها من قبل أطراف الصراع الدولي أو الاقليمي والتي لا تفكر بمصالح لبنان بقدر ما تريد تحويل لبنان إلى مجرد درع أو واجهة لصد الآخرين على أرضه أو خارجها.. هذا هو السياق الذي حول لبنان إلى ساحة للصراعات الاقليمية والدولية وباعد بين قواه الوطنية باستمرار.
فبين نزعة قومية عربية ترتفع مستوياتها وتهبط وفقاً لسياق المد الاقليمي، حيث وجدنا كل أنواع الأحزاب القومية العربية في لبنان الصغير، الذي حُمل بهذا الشأن أكثر مما يحتمل، وبين نزعة لبنانية يسميها أصحابها وطنية لبنانية، ويسميها الطرف الآخر أنعزالية سياسية، جرب اللبنانيون كل الأخطاء السياسية الناتجة عن هذا الصراع العشوائي، حتى تحول البلد إلى حقل تجارب لجميع الأيديلوجيات الزائفة أي التي أثبت الواقع زيفها أو ركاكتها، دون أن تصبح حقيقة كون اللعبة أكبر من اللاعبين حافزاً للتوقف والمراجعة.
لقد مارس السياسيون اللبنانيون كل أنواع العنف، العنف الثقافي المتمثل بإقصاء الآخر والتعالي علية، أو العنف الدموي الرهيب الذي أنتقل من التناحر بين الجماعات المختلفة كما حدث بعد 1975 إلى صراع داخلي شرس بين أجنحة كل جماعة حيث شاع التشرذم والانشقاق في كافة المناطق والكتل التي حاولت دائماً أن تظهر بمظهر التماسك والوحدة. تصفيات رهيبة لم تعرف الرحمة من أجل تحويل الطوائف إلى قبائل سياسية تحت راية زعيم أوحد!! بينما ظلت الأطراف الاقليمية والدولية تتفرج على هذا العرض اللبناني الحزين والمفجع منتظرة لحظة الهدوء كي تقوم بتحريك أوراق اللعبة من جديد وبالطريقة التي تجدها تلك الأطراف ملائمة لمصالحها.

لقد دفع الإنسان اللبناني وما يزال أثماناً باهظة حقاً، دفع ليس ابتزازاً أو خضوعاً بل دفاعاً عن كرامته ومصالحه المشروعة، مثلما دافعت الثقافة اللبنانية عن نفسها في موجهة التفتيت الطائفي والهيمنة المسلحة، لذلك كانت أفضل النتاجات الأدبية والفكرية هي تلك التي جاءت من خارج التكتلات والأحابيل الطائفية وفي مواجهة الحرب الداخلية ورطاناتها ووحشة فواجعها الطويلة. وإذا كانت اللعبة السياسية أكبر من زعماء الطوائف وملوكها فهي ظلت أصغر من الإنسان اللبناني وتوقه الدائم للحرية والانعتاق، وعلى هذا الأساس تمكنت المقاومة اللبنانية، التي أسستها وشاركت بها جميع القوى الوطنية اللبنانية، من تحرير الجنوب، لتبرز بموازاتها ظاهرة رفيق الحريري الذي ساهم بإضعاف ثقافة دكاكين السياسة لمصلحة مشاريع الإعمار والبناء كبداية لإعادة الحياة للأقتصاد اللبناني وبنيته التحتية كأساس مادي لكل أستقلال ممكن. وفي اللحظة التي بدأت فيها معادلات الماضي بالتكسر لمصلحة معادلات المستقبل، جاءت سلسلة الأغتيالات المدوية التي بدأت بالرئيس الحريري نفسه مروراً بسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني!! وإذا كان لهذه الجرائم تفسيرها السياسي الواضح وضوح الجهات التي نفذتها، فهي من حيث الجوهر تعبير عن الحقد الأعمى على مقاومة الإنسان اللبناني وحقوقه المشروعة ومحاولة لتثبيط همته كي تعود الغربان إلى المزرعة من جديد!!

لقد آن الأوان لحراس المزرعة من السياسيين والمسؤولين أن ينتبهوا إلى المقلب الذي هم فيه، إلى حقيقة كون اللعبة أكبر من أي واحد منهم، أن ينتبهوا إلى الخيار الوحيد وهو إمكانية تحويل المسؤولية إلى حقيقة، حقيقة تُصنع في لبنان ومن أجل اللبنانيين، من أجل أن يصنعوا لعبتهم هم ليكونوا فرسانها، لا أن يستمروا باللعب في سوح الآخرين!! وهذا يحتم على كل فريق نوعاً خاصة من المراجعة، أن يسأل كل فريق نفسه أسئلة من نوع: أين أقف الآن؟! وما هي حقيقة موقعي ودوري في اللعبة السياسية؟! وهل أستطيع أن أغير موقعي بما يجعلني أقرب إلى الآخرين المختلفين؟! وحين تتغير المعادلات الاقليمية كيف سينعكس الأمر على موقعي ودوري؟! وهل أستطيع أن أتكيف بما يجعلني قادرة على مواجهة الاستحقاقات الجديدة المفترضة لمصلحة لبنان، أي أمن شعبه ومصالحه السياسية والاقتصادية؟!
ويفترض أن تكون الأجوبة واضحة وعملية من أجل أن لا تضيع دماء الشهداء بدءاً من كمال جنبلاط وليس إنتهاءً برفيق الحريري، لأن تضحيات من هذا النوع ليس بوسع أصحابها التخلي عنها.. وكذلك من أجل أن لا يتحول سلاح المقاومة إلى مادة للمزايدات أو أن يساهم المعترضون عليه بتوجيهه بالاتجاه الخطأ، لأن مبررات وجود المقاومة ما تزال مستمرة ولأن خيار المقاومة خيار شعبي وليس بوسع هذه القيادة الحزبية أو تلك أن تغيره.
وإزاء كل ذلك، هل تستطيع الأحزاب اللبنانية أن تتخفف من أعباء علاقاتها الخارجية كي تشعر حقاً بأعباء المسؤولية عما جرى ويجري في لبنان؟! أن تبحث عن الحل وتصنعه في الداخل وليس في الخارج؟! هذا هو السؤال الذي يجب أن تبدأ منه الحوارات والإرادات، فالغربان ما زالت تحوم حول المزرعة ولن تنفع معها الفزاعات القديمة، فمتى يتم تجديد المواقف والمفاهيم؟!