الأغلبية المطلقة تكفي لتأسيس النظام

وأخيراً اقتنع الأستاذ جلال الطالباني بضرورة الدعوة الى عقد مجلس النواب قبل انتهاء الفترة الدستورية (15 يوماً من اعلان النتائج النهائية). ورغم استغراب البعض لأنه كان من المقتنعين بأن قانون ادارة الدولة لا زال ساري المفعول وأنه يجب التفاهم بين رؤساء الكتل قبل دعوة المجلس، فان القناعة بضرورة احترام الدستور تفرض تأييد هذا القرار. وأهتم في هذا المقال بالدستور الذي أرى ضرورة احترامه، رغم الملاحظات على بعض فقراته والتي يمكن تعديلها خلال الفترة التي حددتها المادة 137 (أي أربعة شهور). وخلافاً لما يطرح البعض جزافاً لا يستدعي تأسيس النظام السياسي بموجب الدستور الا توفر الأغلبية المطلقة، كما سنرى. والأهم هو انعقاد مجلس النواب، بدون تأخير، لأن قانون ادارة الدولة تناول هذا الموضوع في الباب الثامن وعنونها بصفة خاصة quot;المرحلة ما بعد الانتقاليةquot;، وربط في المادة الأخيرة (65) انتهاء العمل به بأمرين: صدور الدستور الحالي وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة. ولكنه حدد (المادة 64- د) تولي quot;الحكومة الجديدة مهامها في موعد أقصاه 31 كانون الأولquot; (ديسمبر 2005) . وهذا ما يؤكد ndash; ضمناً- ضرورة المباشرة في الدعوة الى انعقاد مجلس النواب ويؤكد ضرورة احترام الفترة المحددة دستورياً (المادة 52)، لا سيما وان على رئيس الجمهورية تكليف quot;مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراءquot; (المادة 73- أولاً) ويتولى هذا بدوره بتسمية quot;أعضاء وزارته خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليفquot; (المادة 73- ثانياً).

كفانا محاصصة وطبخات سياسية!
من المفروض أن تؤدي الاتفاقات المسبقة أو الحاضرة الى التفاهم حول تركيبة الوزارة التي يقوم رئيس الوزراء المكلف بعرضها على الهيئة المنتخبة quot;ويُعد حائزاً ثقتها عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري بالأغلبية المطلقةquot; لممثلي الشعب (المادة 73- رابعاُ). ويبدو أن الائتلاف العراقي الموحد أخذ على حين غرة، فقد أعلنت وسائل الاعلام أنه يحاول تأخير هذا الانعقاد لحين التفاهم مع التحالف الكردستاني والفرقاء الآخرين، وأنه يريد الاتفاق على توزيع أو تقاسم إ بقية مناصب الدولة (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب). واذا صح ذلك فسيكون خطأ جسيماً يقترفه قادة الائتلاف، اذ يمكنهم التفاهم حول ضم أطراف أخرى الى الحكومة ضمن الفترة القصيرة المتبقية، أو يتركوا الآليات الدستورية تأخذ طريقها. حيث حدد الدستور، كما ذكرنا، مصادقة مجلس النواب على الوزراء (والمنهاج الوزاري) بالأغلبية المطلقة. أما بالنسبة لرئيس الجمهورية، لا يشترط الدستور أغلبية الثلثين الا في أول دورة من التصويت على المرشحين، ثم quot;يتم التنافس بين المرشحَين الحاصلَين على أعلى الأصوات، ويعلن رئيساً من يحصل على أكثرية الأصوات في الاقتراع الثاني (أنظر المادة 67- أولاً وثانياً). اذن، لا يشترط بالمرة أغلبية الثلثين كما يروج البعض من المسؤولين بجهالة أو عن عمد لتأكيد ضرورة التوافق وتضليل الآخرين. وينطبق نفس المبدأ على رئاسة مجلس النواب، اذ تكفي الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس، بالانتخاب السري المباشر (المادة 53). لذلك فمن الواجب والممكن أيضاً السماح لممثلي الشعب بممارسة دورهم بشكل طبيعي، صحيح أن الاتفاق على المناصب وارد وقد يُمارس في أنظمة ديمقراطية عديدة، ولكن ليس لأحد أن يخصص، وبشكل دائم، رئاسة الجمهورية للأكراد ورئاسة مجلس النواب للسنة مثلاً، بينما يتنادى الجميع ضد اللبننة وضد المحاصصة المذهبية والقومية (أوالطائفية والعرقية). لذلك، يجب ترك الفسحة الطبيعية لممثلي الشعب الآخرين (من تركمان ومسيحيين وصابئة، الخ) لأن يترشحوا على الأقل وقد يتسلموا فعلاً (ولمَ لا ؟إ) رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس النواب أو نيابتيتها. وعلى كل حال، ليس لأحد أن يتجاوز الدستور ويؤخر انعقاد مجلس النواب لاعتبارات تبقى، رغم أهميتها للبعض والبعض الآخر، ثانوية بالنسبة لمسيرة البلاد واستقرار نظامها السياسي.
وقد ينتبه أولوا الألباب هنا الى واحدة من المؤاخذات على النظام البرلماني الذي يعتمد على التفاهم بين رؤساء الكتل (ولكن دون السماح لها طبعاً باعاقة عمل مجلس النواب أو تجاوز سلطته)، وبالتالي يجعل الحكومة تحت رحمة استمرارية التفاهمات وما لذلك من تأثير سيئ على فعالية الأداء الحكومي ووقوع رئيس الوزراء تحت رحمة الضغوط المستمرة. ومع ذلك فان النظام البرلماني أفضل بكثير من اللا نظام ومن فتح الباب أمام الاجتهادات اللا دستورية، لأن الدستور هو المرجعية المؤسساتية والديمقراطية التي يمكن أن تجتمع عليها كل الأطياف العراقية. وسواء كان رئيس الوزراء هو ابراهيم الجعفري أم عادل عبد المهدي أو أياد علاوي، المهم أن يأتي أي منهم وفقاً لقواعد النظام الديمقراطي وبالطرق الدستورية المثبتة. وعلى الآخرين الانصياع للواجب الوطني بالالتحام الحقيقي حوله سواء في اطار الحكومة أو من خارجها بممارسة دور المعارضة البناءة والهادفة الى خدمة البلد وتوحيد الصف الوطني. ويجب أن يشكل هذا الأمر معياراً للوطنية الحقيقية بعيداً عن الاستخدام المزيف للشعارات الدينية أو الوطنية، لأن استقرار النظام والاستمرار باحترام الدستور هو الذي سيؤدي الى ازدهار البلاد والقضاء على الارهاب البعثي/التكفيري.

نعم للتدرج لا للنكوص!
وهكذا يتجلى معنى التدرج والواقعية في النظام الديمقراطي، حيث لن نحصل على الديمقراطية بين ليلة وضحاياه فسياسيونا ضعفاء التجربة كديمقراطيين ومجتمعنا لا يزال في حالة النقاهة من ارث النظام الصدامي/البعثي البغيض من عنف وفساد وضعف الروابط (لا سيما كمواطنين) وتلاشي روح القانون، ثم الارهاب البعثي/التكفيري وما يسببه من فوضى وخسائر جسيمة ووجود الاحتلال. تفرض هذه الأوضاع الدرامية علينا القبول بواقع التدرج في تعميق المكاسب الديمقراطية وتجعلنا ندعو الى الدعوة لرص الصفوف والتذكير بأن المجتمع الذي يحترم نفسه هو الذي يحترم دستوره الذي صوت عليه، مع الدعوة الى تعديله على أسس واضحة لا التآمر عليه وتفريغه من محتواه وما يعنيه ذلك من تضييع للمكاسب الديمقراطية التي حققناها لحد الآن وانغماس المجتمع في أوحال التمزق أو حتى الوقوع في شراك الحرب الأهلية، لا سمح الله.
كذلك لا يعني التدرج الرجوع الى الوراء والاستمرار مثلاً بالعمل بقانون ادارة الدولة الانتقالي ونظامه التوافقي بعد وضع الدستور والاستفتاء عليه. كذلك لا يعني التدرج قبول الأكاذيب والضحك على الشعب عندما يصرح البعض بأن مجلس الأمن القومي المقترح يشبه الكونغرس الأمريكي أو مجلس اللوردات البريطاني. فالكونغرس الأمريكي منتخب من قبل سكان الولايات الأمريكية ليمارس السلطة التشريعية ومراقبة عمل الحكومة من خلال آليات محددة وليس بشكل عام (نظام رئاسي)، وهو يمارس دوره الى جانب مجلس النواب الأمريكي. ويعادل الكونغرس مجلس الاتحاد الذي لم يكرس له الدستور العراقي غير مادة واحدة ؟ ورمت لجنة كتابة الدستور بحمله على مجلس النواب الذي ننتظر انعقاده للبت فيه وفي قضايا أخرى كثيرة وخطيرة. أما مجلس اللوردات البريطاني، فهو يشكل، مثلَ المَلكية، بقايا العصور السابقة ولا يمكن تصور اللجوء اليه في دولة جمهورية قائمة على الانتخابات، وهو لا يشرف على العمل الحكومي وله سلطة ضعيفة جداً في مجال التشريع مقارنة بمجلس العموم البريطاني المنتخب من قبل الشعب لهذه المهمة. كذلك لا يعني هذا التدرج قبول الاستمرار في المحاصصة وما تعنيه من تقاسم الزعماء لمناصب الدولة وتوريثها وتوزيعها على المقربين، في فترة تتميز بالدستور الدائم والشرعية الانتخابية لأن ذلك يعني تكريس الطابع الطائفي والعرقي للمؤسسات بينما المطلوب وطنياً التخلص منه، ولو تدريجياً وعلى مستوى الأحزاب والكيانات السياسية المذهبية والقومية.
لقد أصاب بعض المراقبين عندما بينوا أن الشعب العراقي تجاوز ممثليه السياسيين على مستوى الوحدة الوطنية رغم كل التجاوزات، وعلى مستوى وعيه بأهمية الديمقراطية بمشاركته الواسعة في الانتخابات رغم الأخطار والتهديدات. ومع ذلك فان السياسيين العراقيين مدعوون اليوم الى التكاتف في خدمة الوطن واستقراره قبل فوات الأوان، فعند ذاك سيلفظهم ناخبوهم ولن يرحمهم التاريخ!

باحث أكاديمي

[email protected]