-1-
صادف يوم الخميس الماضي 16/3/2006 الذكرى الثامنة عشرة لكارثة حلبجة الإنسانية الفظيعة الكبرى التي راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف بريء من العراقيين الأكراد على وجه الخصوص. وهذا العدد ليس كبيراً مقارنة بما قتلته quot;حملة الأنفالquot; الأخرى التي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف من الأبرياء في شمال العراق كذلك، والتي تمت في العام نفسه 1988 ونفّذها المجرم النازي علي الكيماوي. واليوم ونحن نذكر هاتين الواقعتين بأسىً كبير، نلتفت حولنا في العالم العربي، فلا نجد مظاهراً لهذا الأسى المُبـرح، ولا لهذا الألم المُمضّ، وكأن هاتين المأساتين لا تعنيان العرب ووجههم القبيح في هذا، لا من قريب ولا من بعيد. وكأن العرب لم يكونوا هم من اقترف هاتين الجريمتين. وكأن الذاكرة العربية المثقوبة قد ازدادت ثقوباً، وأصبحت كالمُنخُل، لا تَعلْق فيها ذكرى، ولا تستقر فيها قارعة أو داهمة.

-2-
لقد استطاع اليابانيون بذكاء مفرط، وبصمت، وبدون نوازع الانتقام، أن يحوّلوا كارثتي هيروشيما ونجازاكي من كارثتين يابانيتين خاصتين إلى كارثة انسانية تاريخية عامة وشاملة، أصبحت نقطة سوداء في التاريخ الأمريكي السياسي المعاصر. وأصبحت هاتان الكارثتان درساً بليغاً للحماقة السياسية والقرار السياسى الاجرامي، ليس للسياسيين الأمريكيين فقط، ولكن لكل السياسيين في العالم، وعلى مرِّ التاريخ. وما زالت هاتان الكارثتان ماثلتين أمام ناظر وضمير العالم من خلال المتاحف والمزارات والكتب والنشرات والأفلام التسجيلية.. الخ. التي قامت بها اليابان، تشهد على مدى غوئائية السياسة الأمريكية في الاربعينات. وهذا الدرس التاريخي للسياسيين الأمريكيين هو الذي منع وحال دون إلقاء قنبلة نووية ثالثة على أفغانستان في 2001 كالتي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي عام 1945 ، لتدمير quot;القاعدةquot; وعناصر الارهاب الدولي هناك ، بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، التي كان أكثر إيلاماً وأشد وجعاً واهانةً لكرامة أمريكا من كارثة بيرل هاربر عام 1942.

-3-
نحن العرب، لم نفعل شيئاً ايجابياً وعالمياً، بحق هذه الكارثة في حلبجة وفي quot;حملة الأنفالquot;، لأن الذاكرة العربية المعاصرة ذاكرة مثقوبة، لا تحمل دائماً غير كل ما هو تافه وسطحي وساقط. والدليل على ذلك، أنه مرّت بالأمس ذكرى هذه الكارثة، فلم يلتفت إليها أحد من الكتبة العرب، ولم أسمع عليها تعليقاً في إذاعة أو تليفزيون، ولم ينعق بها الناعقون كما ينعقون صبحاً ومساءً على ما يجري في أبو غريب وسجن غوانتاناموا، والفلوجة، دون أن نتساءل أو نسأل أنفسنا من كان السبب في كل هذا، ومن هو الذي جرَّ على العرب كل هذه المصائب والكوارث، ومن الذي أتى بالثعالب إلى كروم عنب العرب؟

-4-
صمتَ الإعلام العربي أول أمس عن ذكرى حلبجة الثامنة عشرة. وكأن الأمر لا يهُمّ أحداً. فبدون استثمار هذه الذكرى الاستثمار الإعلامي الذكي والعقلاني، وفضح أعمالها الاجرامية، لكي تكون درساً لبقية الديكتاتوريين في العالم العربي، لكي لا يكرروا هذه الجريمة الكبرى في بلادهم، سوف تتكرر كارثة حلبجة في كل مكان من العالم العربي مع فئات وأقليات أخرى في العالم العربي، بين العرب والأقليات الأخرى، وبين المسلمين والمسيحيين. وسوف لن يرتدع أي ديكتاتور عربي عن القيام بجريمة كجريمة حلبجة، وسوف يظهر عدة مجرمين نازيين على شاكلة علي الكيماوي، يرتكبون جرائمهم، دون حساب أو عقاب.
صمتُ الإعلام العربي عن استخلاص الدروس والعظات من مأساة حلبجة في هذه الذكرى الحزينة صمتٌ مخزٍ وفاضح.
وصمتُ المثقفين العرب والكتبة العرب عن التفسير والشرح والإدانة واستنباط القيم من هذه الكارثة، صمتُ الجهالة التائهة في مسالك البهاليل.

-5-
كان الأجدر بمؤتمر اتحاد المحامين العرب ومؤتمر الأحزاب العربية، اللذين عُقدا في دمشق في الأيام الماضية لنصرة الديكتاتورية السورية على الشعب السوري والشعب العراقي والشعب اللبناني، أن تُعقد مثل هذه المؤتمرات في حلبجة وفي الشمال العراقي لكي تُظهر للعالم، أن للعرب ضميراً حياً، وأن للعرب قلباً نابضاً، وأن للعرب ذاكرةً حافظةً للكوارث. وأن العرب من هذا كله، يتّعظون ولا يُهملون، ويتعلمون ولا يجهلون، ويحفظون ولا ينسون، ويعاقبون ولا يخافون. ولكن للأسف، أظهر العرب بأنهم أمة الذاكرة المثقوبة كغرابيل الحنطة، التي لا تحفظ غير الحجر، والزوان!

-6-
ولعل الموقف الأشد غرابة والأشد ألماً وأسفاً هو موقف رجال الدين من هذه الذكرى الأليمة. فلا شيخ معروفاً وقف على منبر مسجد، ليدين هذه الكارثة، وسوُق الآيات والأحاديث المستنكِرة لمثل هذه الفواجع. ولا شيخ معروفاً، أو فقهياً من ذوي الفصاحة والنصاحة والألسنة الطويلة هذه الأيام في الشأن العراقي والشأن الفلسطيني والشأن اللبناني، قال كلمة لله، في حق الشهداء الأبرياء، الذين قضوا في حلبجة، وفي حملة الأنفال، وأفتى بعد فتّة.

-7-
فبئس أغلب المثقفين العرب، ما أغفلهم عن ذكر الحق والحقيقة. وبئس معظم رجال الدين العرب، ما أطول ألسنتهم في مدح الحكام، وأقصرها في الدفاع عن حقوق الانسان.
وبئست الأحزاب العربية والاتحادات النقابية العربية على كافة أشكالها وألوانها، ما أجبنها وما أكذبها، وما أكثر تلونها في تملّق الأنظمة الديكتاتورية والخوف منها.
فكل هؤلاء ما هم إلا سدنةً في معابد الديكتاتورية العربية، مهما لبسوا من مسوح الحرية والديمقراطية الزائفة، ومهما رغوا وازبدوا وتغرغروا بشعارات الحداثة والعلمانية.

-8-
ويا أيها الأكراد، بادروا بتخليد ذكرى شهدائكم، وتعلموا جيداً من الدرس الياباني وكارثته الفظيعة. وانظروا كيف خدمت كارثتا هيروشيما ونجازاكي مستقبل اليابان السياسي والثقافي.
أقيموا الأنصبة أيها الأكراد، وأقيموا المتاحف الراقية، وأقيموا المزارات، وانشروا الكتب، وصوّروا الأفلام الوثائقية لجرائم النازية العربية التي غنى لها الشعراء العرب الكبار، وصمت عنها الكتاب والسياسيون العرب النفطويون (بنو نفطويه) الذين فضحتهم فضيحة كوبونات النفط الكبرى. فبهذا وحده يكسب الشعب الكردي عطف الرأي العام العالمي، ويقف إلى جانبه في حريته وانعتاقه من أغلال الظلم والاستبداد والعزلة.

[email protected]