غالبا ما تكون مواقف بعض الشعوب- والمتخلفة منها بشكل خاص- انفعالية عاطفية، وليدة اللحظة، تتأثر بحادث عارض، أو لحظة ضعف أو انتقام، أو يتلاعب بها الجهل ومستغلو الدين والزعماء والإعلام.
وبعض الشعوب تكون شديدة التعصب ضد الآخر الذي تتقاسم معه الوطن، وضد من يخالفها الرأي أو العرق أو المعتقد، وبعضها الآخر يأخذ مواقف متشددة من النساء، فهل يتوجب على العالم أن يحترم رأي هذه الجماعات وإرادتهم، بحجة أن هذا ما أفرزته الانتخابات الديمقراطية؟ وإذا رفض العالم احترام هذه الخيارات، ورفض التعاون مع أصحابها، فهل هذا يعني أن للعالم معايير مزدوجة أو مواقف انتقائية؟
لا يمكن احترام خيارات الشعوب ما لم تكن إنسانية، تنزع للسلم، وتقبل بالآخر وتتعاون معه على أنه شريك على قدم المساواة في الشكل والجوهر، وجزء لا يتجزأ من النسيج الوطني والاجتماعي.

عندما فاز في النمسا مطلع عام (2000) حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة يورغ هايدر، بالمرتبة الثانية، في انتخابات ديمقراطية بالغة الشفافية، عبرت عن الإرادة الشعبية، وأراد هذا الحزب تشكيل حكومة مع حزب الشعب النمساوي بقيادة شوسيل. ارتعب الأوروبيون والأمريكيون من هذه النتائج وهذه التوجهات وهددوا بقطع العلاقات السياسية مع النمسا، وفرض عزلة عليها، إذا شكل حزب الحرية أو شارك في الحكومة النمساوية. وأعرب هايدر عن دهشته حينها لتدخل الأوروبيين والأمريكيين في مجريات العملية الديمقراطية، معتبرا ذلك تدخلا في الشؤون الداخلية للنمسا. لكنه رضخ أخيرا لتهديدات أوروبا وأمريكا، وانسحب إما حرصا على مصلحة الشعب النمساوي، أو لعدم تعاون حزب الشعب معه بعد هذه التهديدات.
فلماذا لم تحترم أوروبا وأمريكا والعالم إرادة الشعب النمساوي وخياراته الديمقراطية؟

وعندما صعد عاليا في الأفق نجم ميلوسوفيتش زعيم الحزب القومي الصربي، وفاز فوزا ساحقا في انتخابات ديمقراطية أيضا. نصبه الصرب زعيما قوميا، وطالبوه (بتوحيد صربيا) والقضاء على الانفصاليين وإعادة إقليم كوسوفا إلى الوطن الأم، فاستجاب ميلوسوفيتش مفتونا بهذه الدعوة التي تلاقت مع توجهاته، ووجه جيوشه ودباباته وطائراته ومدافعه نحو ذلك الإقليم الصغير، فدمر أرضه وقتل شعبه وشرد من تبقى من أهله، لكن أمريكا وأوروبا وقفا في وجهه، وقد راعهما هذه الحرب العنصرية القذرة، فشنت طائرات الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة حربا ضروسا ضد صربيا وميلوسوفيتش، دمرت فيها البنى التحتية الاقتصادية والعسكرية، وظلت تقصف لأكثر من خمسين يوما حتى استسلمت صربيا، ونال إقليم كوسوفا استقلاله، واقتيد ميلوسوفيتش كمجرم حرب إلى محكمة دولية، مات فيها، وما زال البحث جاريا لإلقاء القبض على رفاقه الفارين.

فلماذا أيضا لم يحترم العالم حينها إرادة الشعب الصربي وخياره الديمقراطي؟
وكذلك الأمر عندما اختار الصربيون والكرواتيون والبوسنيون زعمائهم، ليشنوا ضد بعضهم بعضا حرب تطهير دينية عنصرية أدت إلى مئات المذابح الجماعية المروعة، وعشرات الآلاف من الأرواح البشرية، لا لشيء إلا لأن المتقاتلين مختلفين في الدين والعقيدة، إلى أن تدخل العالم وأوروبا وأمريكا ووقفوا في وجه هذه الحرب العنصرية، رافضين احترام خيارات تلك الشعوب، فطاردوا قادتها، واقتادوا من استطاعوا إلقاء القبض عليهم إلى محاكم دولية.

ولماذا نذهب بعيدا؟ فقد انتخبت الأكثرية الساحقة من شيعة العراق القائمة الشيعية الموحدة، بموجب فتاوى دينية، فاكتسح الشيعة مقاعد البرلمان، وشكلوا الأكثرية في انتخابات حرة ديمقراطية، فصار من حقهم تشكيل الحكومة العراقية وتطبيق أجندتهم الثقافية والسياسية. فهل يحق لهم فعلا الإنفراد في السلطة، وتهميش السنة، واضطهاد باقي الأقليات، وفرض علاقاتهم الدولية والدينية عليهم، أو اتخاذ إجراءات عقابية أو انتقامية ضدهم، بذرائع تاريخية أو دينية؟ وهم مواطنون عراقيون مثلهم. لهم ما للشيعة في هذا الوطن، وللوطن عليهم ما له على الشيعة. أو هل يحق للأكثرية في إطار انتخابات ديمقراطية أن تطالب العالم باحترام إرادتها، وتفرض على الأقلية رأيها ومفاهيمها، وتمنعها من حقوقها وثقافتها وعاداتها؟ وهل يتوجب على العالم في مثل هذه الحالة أن يحترم خيارات الأكثرية؟
أن الانتخابات الديمقراطية ما لم تترافق مع الاعتراف التام بحقوق الإنسان فستكون وبالا على الشعب والوطن، وسلاحا فتاكا بيد الأكثرية التي ترى أحيانا أن الأقلية الدينية أو العرقية عدوها اللدود، وعائق في وجه نموها وتقدمها، وأن لها من الصفات ما يؤهلها لتنظر بدونية واحتقار إلى هذه الأقليات.
[email protected]