الحكاية العراقية ما مثلها حكاية!! نهايتها لا تنتهي وبدايتها حطب وكلام. حطب يوجع النار لذلك يبقى رماد الحكاية حاراً يكوي القلوب. الحكاية العراقية لا تنتهي لأن الرواة كثيرون والجمهور يخفض يداً ويرفع رأساً ولا يفهم شيئاً لكثرة الرواة والوجوه والأصوات .. كيف تنتهي الحكاية والأوراق تتطاير على قبور مجهولة. قبور كثيرة في طول البلاد وعرض التاريخ لكن الشهود لا يعرفون أسماء القتلى والقتلى لا يعرفون وجوه القتلة. القتلى كثيرون يريدون الخروج من القتل، من حكاية الموت ووحشة القبور. قبور كثيرة يوجعها حطب القضاة وكلام المحامين ...

الحكاية العراقية لا تنتهي فالشهود غائبون، أصابهم الخرس والحراب وغصوا بالماء المر، ماء الحكاية ذاتها، بينما وجوه القتلة تظهر على شاشات التلفزيون ببدلات أنيقة ووجوه مكفهرة، محللون سياسيون ومسؤولون سابقون، قوادو سياسة يُهزمون في الحروب فيظهرون منتصرين في الهزائم. لقد سقطت اللغة تحت أقدامهم، سحقوا على رؤوس الكلمات وتركوها ترفس في بيداء المعنى، لذلك تبقى الحكاية تدور حول نفسها. لقد هربوا وتركوا الحكاية تدور حول نفسها .. تدور حول القبور والهزائم والخيانات ...
كيف تبدأ الحكاية وفرسانها قتلى ينهضون من موتهم يتعثرون بظلالهم يفتشون عن أسمائهم فيسقطون في هاوية الفراغ .. كيف تبدأ الحكاية وكيف تنتهي إذن؟!
الحكاية العراقية لا تنتهي: سورة ماء في نهر الزمن الراكد. النهر راكد لكن السورة تدور بوجوه الغرقى، وفجأة ينهض المجرم من الأوحال، ينهض صدام حسين من أوحال التاريخ على حصان كالح، مجرم بقميص بطل، يصهل به حصان كالح يضرب سياج المحكمة بحوافره فيخرج منتصراً إلى شوارع بغداد لكن حصانه أعمى يظل يتعثر به، يرتطم بالناس والبيوت، يضرب هذا العمود أو تلك الشجرة فيسقط على بقايا سيارة منفجرة، فيقهقه للأشلاء المتناثرة: هذه هي دلائل قادسية جديدة فكيف يقول الأعداء بأننا هُزمنا!! إذن ما هذا العويل ولماذا يتراكض العراقيون فارين لا يلوون على شيء؟! إليست هذه دلائل أنتصار جديد؟! لكن حصانه يسقط به إلى حفرة الذنوب فيستيقظ مرعوباً ليجد نفسه مخلوع الروح ناشف الريق وحيداً بين جماعته وسط قفص الإتهام.

قفص المحكمة ضيق لكن الحكاية فضفاضة ولا تريد أن تنتهي. المجرم يضحك يقهقه فقد خلع عليه المحامون العرب قميص البطل. مجرم بقميص بطل يشتم ضحاياه ويتهم القاضي. ممثل في أدوار لا تنتهي، يؤدي الدور ونقيضه في نفس اللحظة. مكياجه سميك كي لا تظهر عليه علامات الخوف أو الارتباك. كيف يخاف المجرم وقميص البطل يغطي عاهاته وخطاياه وأصوات المحامين العرب تدور حوله بلهجات مصرية ولبنانية وقطرية واردنية، أصواتهم تدور حوله كما تدور سورة أوحال في مستنقع تاريخ راكد؟!
القتلى يتنفسون الصعداء. رنين أجراس يأتي من بعيد، رنين أجراس مبلل بالليل والنجوم والأحزان ... كيف تنفلق الحجارة عن عشب وأزهار برية ويعبق الهواء برائحة الربيع وبقايا قطرات المطر، ولا تنفلق قبورنا لنخرج مهرولين إلى أمهاتنا وبيوتنا وجيراننا كي نخبرهم أين قـُتلنا وكيف دُفنّا على بعضنا وصرخنا واختنقت صرخاتنا. نخبرهم الحكاية كي نتنفس وننتهي .. ليصنعوا لنا قبوراً ويضعوا أسماءنا على القبور التي لا نريد أن نعود إليها أبداً. نريد أن نرى أسماءنا على قبورنا دون أن نعود إليها فقد متنا كثيراً وأكلت الوحشة حياتنا. نريد أن نحيا كما تحيا الأمطار والأزهار والأعشاب .. وإلا كيف نبقى مجهولين إلى هذا الحد وتكون لنا حكاية وتكون لحكايتنا فرحة وغصة، أو بداية أمل وآثار بهجة على الطريق كما يحدث لجميع الشهداء؟!
ألا يحق لكل إنسان أن يكون له أسم، يعيش به .. يحب ويكره يسافر بأسمه يتكاثر ويفرح يُنادى ويُسجَل فيجد أسمه في سجلات المدارس والدوائر والنوادي أو السجون. ليكون لكل إسم حكاية وبيت يضع أسمه على بابه وحين يموت ينقشون أسمه على قبره.
لقد قتلونا لكننا لم نمت بعد، الوجع ولعلعة الرصاص، الخناجر والجروح، ضجيج الشفلات وهي تحفر قبرنا الواسع لا تتركنا نموت .. إننا نسمع القاتل يقهقه في قفص الإتهام، يقهقه في تلفزيونات العالم فتتردد أصداء قهقهته في البيوت والمقاهي والشوارع .. بينما نصراخ نحن ولا يسمعنا العراق، لا تسمعنا المساجد ولا الجامعات ولا المقاهي ولا أشجار الرصيف .. ينسانا القاضي وهو يحدق في وجوه المتهمين، ينسانا المدعي العام وهو يرتب الأوراق والأدلة، ينسانا العراقيون وهم يحملقون في التلفزيونات بعيون مضطربة!! أليست أسماؤنا الممحوة وجروح وجوهنا ومقابرنا الجماعية أدلة إثبات وإدانة؟! إذا كان المحامون العرب يشكّون بالتهم الموجهة لصدام حسين وعواد البندر وبرزان التكريتي بمجزرة الدجيل، فهل سيصدقون بموتنا؟! وإذا كانت الأرض ما زالت تئن من جراحنا، فمن قتلنا إذن؟!
إذا كان القاضي لا يعرف من قتلنا وغير متأكد من الأدلة لحد الآن والشهود غائبون أو خائفون!! فكيف ستبدأ حكايتنا وإلى أين ستنتهي؟!
هل هذه محكمة؟!
أم أن هذا السؤال ثقيل، وإذا كان ثقيلاً؟! هل هو أثقل من أطنان التراب والأوجاع والنسيان الذي أهيل علينا، وما زلنا نئن مختنقين نصرخ ولا يسمعنا أحد؟! هل هذه محكمة؟! وهل الحق بحاجة إلى هكذا محكمة؟! لماذا لا تأتون بهياكلنا العظمية وجماجمنا تحيطون بها قفص الإتهام وتسألون المتهمين: من قتل هؤلاء؟! نحن مئات الآلاف، مئات الآلاف من الأروح المختنقة. لماذا لا تأخذون جماجمنا وهياكلنا العظمية إلى شوارع القاهرة وعمان والدوحة وبيروت كي نصرخ هناك: من قتلنا يا عربان؟! كيف نـُدفن أحياءً وأنتم لا تعلمون؟! كيف نـُدفن دون أسماء وعناوين؟! أجيبونا قبل أن تذهبوا إلى المساجد والجامعات والأسواق. أجيبونا قبل أن تذهبوا لزيارة موتاكم.
أجيبونا كي تبدأ الحكاية وكي نعرف لماذا لا تنتهي. أجيبونا كي نعرف كيف تعيش أمة العرب وتدعي المجد والسؤدد ومحاموها أنيابهم طويلة وضمائرهم ميتة ومنخورة؟! أية أمة هذه وأية حكاية مريرة حقاً؟! أيةُ هزيمةٍ هذه، أيةُ هزيمة؟!!!