أيا كانت مخاطر اليوم ومآسيه، فإن يوم التاسع من نيسان 2003 سيظل معلما ساطعا في تاريخ العراق الحديث، وفاصلا بين عهد وعهد. في ذكرى 9 نيسان الخالد، لا بد أولا من تحية ذكرى جميع شهداء العراق على درب الحرية والديمقراطية. كما أن من الواجب الإعراب مجددا عن الامتنان لدور القوات الأمريكية والبريطانية وحلفائها لما بذلوا من دم،، وما بذلت الإدارة الأمريكية من أموال دافعي الضرائب الأمريكان.
إن الساعات الأولى بعد سقوط الصنم الكبير كانت هي التعبير الناطق والحي عن فرحة شعبنا، الذي قدمت جميع مكوناته القومية والدينية وكل قواه الوطنية تضحيات غالية جدا في النضال الشاق ضد النظام الفاشي البائد.
وفي هذه المناسبة أيضا، نعيد التأكيد على أهمية وواجب المكاشفة النقدية عند معالجة الأوضاع ومواقف وسياسات مختلف الأحزاب والشخصيات الوطنية والهيئات الدينية والنخب الثقافية. إن الحركة السياسية العراقية تعاني مع الأسف من ضمور الجرأة على النقد الذاتي من جهة، ومن عدم تحمل النقد وتفسيره بالخصام والعداء والحقد وبالتشهير.
لقد فتح يوم التاسع من نيسان آفاقا رحبة للتغيير على كل الأصعدة. ولكن الأمور لم تسر مع الأسف كما كان ينبغي أن تسير، سواء من أخطاء أمريكية فادحة، أو أخطاء القوى السياسية والحزبية. وسبق أن كتبنا منذ أيام مقالا تفصيليا في هذا المنحى.
نحن اليوم في وضع حرج للغاية لتفاقم عمليات الإرهاب الوحشية البربرية، التي صارت تطال عن عمد الشيعة قبل غيرهم، في مسعى واضح لتفجير صراع طائفي واسع النطاق لا تعرف عقباه. إن الهجمات على المساجد، وعمليات الإرهابيين الصداميين وحلفائهم، وانفلات المليشيات المسلحة التي تقوم من جانبها بانتهاكات كبرى، تؤجج المشاعر الطائفية وتضرم الأحقاد، وتفتح طريق جهنم، وما أدراك كيف ستكون!
إن سببا رئيسا لمآسينا، بجنب تخبط القيادات السياسية والتدخل المتزايد لرجال الدين في أدق تفاصيل العملية السياسية، هو الوضع الجغرافي للعراق، المحاط بدول لا يمكن أن تقبل بالتطور الديمقراطي للعراق.
لقد كتبنا وكتب غيرنا، ونشرت عشرات الوثائق، عن التدخل الإيراني واسع النطاق، وسياسة إيران في استخدام الورقة العراقية في مواجهة أمريكا ومجلس الأمن. كما نشرنا عن الدور السوري منذ يوم التحرير. أما بقية الدول العربية، فمعروف أن أموالا خليجية ضخمة تتسلل لعراق لتمويل الإرهاب الزرقاوي الأصولي. أما مصر فقد أسرعت منذ اليوم الأول لتشكيل مجلس الحكم للتشكيك بشرعيته على لسان وزير خارجيتها السابق السيد أحمد ماهر، الذي يدبج اليوم وبصورة منتظمة مقالاته التي تشكك
في الوضع العراقي وفي المواقف الأمريكي من العراق. ونعرف جميعا مواقف السيد أمين الجامعة وانكماشه الجاف عن مجلس الحكم والحكومات التالية. إلا أن أغرب المواقف المصرية من العراق هو تصريح الرئيس المصري لقناة العربية يوم 8 نيسان الجاري، وفيه روح من التعصب الطائفي الصارخ ويطمس للحقائق، وذلك عندما يقول إن ولاء كل شيعة العراق والمنطقة هو لإيران أولا! يا له من تصريح هو، فضلا عن مغالطته، إسهام في تأجيج الصراع المذهبي الدائر في العراق و المفترض بحكام العرب العمل لإطفائه لأن شرارات أي حريق مذهبي واسع النطاق في العراق لن ترحم أيا من دول المنطقة! أجل، هناك أحزاب ومليشيات وبعض رجال الدين ممن يعتبرون الفقيه الأعلى خامنئي هو مرجعهم الأول؛ غير أن هناك أيضا شرائح واسعة من ساسة ومثقفين ومن شخصيات شيعية تؤمن بالولاء أولا للوطنية العراقية والخيمة العراقية. ومعروف أيضا أن قسما كبيرا منهم هم من الديمقراطيين واللبراليين العلمانيين. إن الرئيس مبارك مدعو لمراجعة حكمه الباطل، الذي لا ينسجم مع الحقيقة، فضلا عن افتقاره للكياسة الدبلوماسية.
إن الخبر عن تراجع الدكتور الجعفري أخيرا عن ترشيح نفسه، هو لو صح، موقف يشرفه ويحمد عليه، ونحن نأمل أن يفلح الساسة المتصارعون في تأسيس حكومة وحدة وطنية حقيقية لا شكلية، وإلا فترك الميدان مؤقتا ولفترة عام مثلا لحكومةتكنوقراط وطنية قوية وعالية الخبرة والكفاءة.
إن أزمة أربعة شهور بعد الانتخابات أراحت الخصوم وأعداء حرب التحرير، وفي نفس الوقت أزعجت الدول التي ساهمت بالدم والمال لكي يهل 9 نيسان على شعبنا والمنطقة وليكون عامل استقرار وسلام. أما محاولات إلقاء تبعة الفوضى والصراع المذهبي على الأمريكان، كما يفعل الصدر وكما بعض تصريحات أخينا الجعفري، ومواقف هيئة علماء المسلمين، فإنها باطلة، وهي تعني التملص من مسؤولية تدهور الأوضاع.
في التاسع من نيسان نقول مجددا divide;ن طريق الديمقراطية أمامنا طويل جدا، وإن الكثير يعتمد على تلافي القيادات لأخطائها ومراجعتها، والكف عن زج الدين في كل تفصيل سياسي.
إن الأزمة الأخيرة قد ساهمت في تفاقم عمليات الإرهاب، وأضعفت ثقة الناس بالحكام، حتى صار ثمة عند كثيرين من المواطنين شعور بالإحباط وخيبة الآمال وفقدان الثقة.
إننا نعرف أن المستقبل، ومهما بعد، سيكون للديمقراطية، ونعرف أيضا أنه على مواقف الأحزاب والقيادات السياسية سيعتمد المسار المقبل.
إن التاريخ العراقي لن يتساهل مع المتشبثين بالمصالح والحسابات الفئوية والشخصية، وبالداء الطائفي. لقد أُعطينا الحرية فأسنا استخدامها حتى نكاد نذبحها! فمتى سينطلق الجميع أولا من المصالح الوطنية العليا؟!