أحسن الرئيس الفلسطيني، صُنعاً، حين هدّد المجتمعين حول طاولة الحوار الوطني، بان أمامهم عشرة أيام فقط، لكي يتفقوا، وإلا، فهو سيعرض وثيقة المعتقلين، التي سيجري على أساسها الحوار، إلى استفتاء شعبي. استفتاء يقرر عبره الفلسطينيون، موافقتهم على تلك الوثيقة الثمينة أو رفضهم لها. فهو بهذه الخطوة الصحيحة في الاتجاه الصحيح، وضعَ الجميع، أمام مسئولياتهم. فلا مراوغة ثمة، ولا مهرب، ولا مكابرة، ولا مزايدات. فالقطار كله في منحدر، ويوشك أن يروغ عن السكّة، بكل راكبيه. وعلى الجميع تداركه، قبل أن تحدث الكارثة الكبرى.
إن الوقت، لا يحتمل مناكفات ومصادمات فتح وحماس. فنحن الآن في قلب الخطر. ومشروعنا الوطني مهدد في الصميم. ثم إن الوثيقة التي صاغ بنودها مناضلون يقبعون وراء القضبان في معتقلات الاحتلال، هي وثيقة إجماع، من كافة أفراد الشعب الفلسطيني، قبل قادة الطيف السياسي الفلسطيني، بما فيهم فتح وحماس. لذا فهي وثيقة بالإمكان تنفيذها على الأرض، وبالإمكان، أن تنجينا وتصل بنا إلى بر الأمان، في هذه المرحلة القاسية، من تاريخ نضالنا الوطني. إنها وثيقة خلاص كتبها قادة يحترمهم شعبهم ويحترم فيهم علو وسمو شعورهم الوطني ومواقفهم الوطنية. فهم، وبحكم اعتقالهم الطويل، أعمق إحساساً، من غيرهم ربما، بمأساتنا، وبما يصحّ ولا يصحّ من ضروب التصرف والسلوك، في ساحة العمل العام. إنهم جمعياً تحت يد الجلاد. وجميعاً، يشعرون بدقة وحرج المرحلة. لذا، لن نجد أفضل منهم، كي يكونوا ضميرنا الصاحي، وكي تقود وثيقتُهم سفينتنا في زمن اللجة. هذا من جانب. ومن جانب آخر، ثمة مبادرة رجال الأعمال الفلسطينيين، ورموز المجتمع المدني، التي طرحها قبل أسابيع، الأخ منيب المصري. وكم يودّ الفلسطينيون، بأجمعهم، على مناقشة هذه المبادرة، وعلى الأخذ بما جاء فيها، للخروج من بطن الحوت. فإذا أُخذَ بما جاء في وثيقة الأسرى، وأُضيف إليه ما جاء في مبادرة رجال القطاع الخاص، يكون ثمة أفق، وتكون ثمة حلول. أما أن يجتمع المتحاورون، ويقرأ كل واحد منهم، ما يراه فصيلهُ السياسي، ثم لا يتفقون سوى على الحد الأدنى، فهذا ما يخشاه ولا يريده بالبداهة الفلسطينيون!

لأول مرة في التاريخ السياسي، يتقدّم القطاع الخاص، بنزعته الليبرالية، كي يأخذ دوره ومكانه، في صنع القرار السياسي والاقتصادي الفلسطيني. ونحن علينا أن نشجعه، ونؤيده، بدل أن نستخفّ بهذه المبادرة، فقط لأن بعضنا لا يرضى عنها. لقد طرحت هذه المبادرةُ، عدة نقاط مهمة جداً، منها مطالبة الرئيس عباس، بالمضيّ قدماً في المفاوضات مع إسرائيل، باعتباره رئيساً لمنظمة التحرير، وهي الجهة المخوّلة بالمفاوضات، وذلك على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية في قمة بيروت. كما طالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية من التكنوقراط والخبراء، لأن حكومة كهذه ستكون الأقدر على إدارة الأمور اليومية للفلسطينيين. كذلك دعت مبادرة رجال الأعمال إلى إصلاح منظمة التحرير، وإلى احترام الخيار الديمقراطي للشعب واحترام نتائج هذه الانتخابات. وعدم وجود مبرر للحصار الدولي المفروض على الجميع. هذه باختصار أهم بنود المبادرة. وهي، بإضافتها إلى وثيقة المعتقلين، فإنما تكمل الواحدة منهما الأخرى. لذلك، على المتحاورين، إدراج هذه المبادرة في جدول أعمالهم. ومناقشتها بما تستحق من وقت وجدية. فقد آن الأوان، لرجال الأعمال الوطنيين، أن يتكلموا، وأن يُسمعوا صوتهم للسياسي الفلسطيني. فهذا السياسي، وطوال عهدنا به، لا يسمع ولا يستمع إلا لنفسه. ونحن نعرف، كم حيّد أبو عمار، رؤوس الأموال الفلسطينية، وكم حاصرها، كي لا يكون لها أي شأن في ساحة العمل السياسي العام. إذ كان الرجل يخاف منهم ويخشاهم، ولذا لم يأل جهداً، في تغييبهم، ودفعهم للهرب بأموالهم، واستثمارها في الخارج. فهو كان يريد ابتزاز أموالهم، ولا يريد لهم مكاناً بالمقابل. يفرض عليهم شروطاً مجحفة، فيضطرون إلى الهروب إلى كل بلدان العالم، متأسفين مقهورين. ولدينا في هذه النقطة بالذات، طرفُ علْمٍ بالقصص الكثيرة، التي لم يكتبها أصحابها بعد! والتي نتمنى عليهم كتابتها، ليعرف القاصي والداني، كيف كان يتصرف قائد وزعيم الثورة، ورئيس الفلسطينيين بعد سنوات، مع رجال الأعمال هؤلاء! الأمر الذي دفع بغالبيتهم العظمى، بل بكلّهم تقريباً، إلى الفرار بجلودهم، وزيادة استثمار أموالهم في الخارج، بدل نهبها في الداخل!
لقد جاء دور هؤلاء الآن. وأرجو ألا ينكصوا عنه. فشعبهم، الفقير المضيّع الموشك على عوز، بأمسّ الحاجة لهم، ولأموالهم، ولضميرهم الوطني، وبخاصة في هذه المرحلة. هذه المرحلة، حيث تحكمه مافيات وميلشيات مسلحة، فتذيقه ما لم يخطر على باله وخاطره يوماً.
إن الشعب الفلسطيني برمته، ينتظر ما ستسفر عنه طاولة الحوار الوطني. فإذا خيّب المتحاورون أمله، فلا بد له من قول كلمته أخيراً، وحسم المسألة عبر الاستفتاء الشعبي الذي دعا إليه محمود عباس، بصفته رئيساً لكل الفلسطينيين، لا رئيساً لفتح.
من هنا، فإن أبا مازن، رفع المصالح العليا للفلسطينيين، فوق حساب التنظيمات، التي أثبتت الشهور الأخيرة، مقدار ضيقها ومقدار أنانيتها وفئويتها، ومقدار عمائها عن رؤية وقراءة المستجدات من حولها، قراءة صحيحة.
إننا نأمل من السيد إسماعيل هنية، رئيس حكومة الشعب الفلسطيني، كما هو في الواقع، وكما يُحب أن يُنادى، أن يحذو حذو محمود عباس، فيرتفع على مصالح حركته، وأن يدفع باتجاه نجاح مؤتمر الحوار.
إن المهمّ، تذكير الجميع، حماسيين وفتحاويين، على نحو خاص، بأن صبر الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، بدأ ينفد. وأن غالبية هذا الشعب، بدأت تبدي استياءها وحنقها وغضبها على الفصيليْن الأكبرين. وعلى ما تفعله عناصرهما المسلحة في الشارع والمفترقات. فيكفي هذا الشعب، ما فيه، من آلام ومن تضحيات ومن شهداء، ومن جوع، ومن حصار الخ..ومهما كانت حدة الخلافات بين المتنازعين، فإن عموم شعبنا، لا تسمح ولا تقبل بأن تُحلّ هذه الخلافات برصاص الأخوة. فذلك خط أحمر ومحظور أكبر لدى الفلسطينيين. وإني لا أستبعد، فيما لو أُعيدت الانتخابات، في الأسابيع القادمة، أن يُفاجأ كلا التنظيمين، بهبوط مؤيديهما، وتدنّي نسبة التصويت لهما.
لقد تعالت وتيرة العسكرة في الأشهر الأخيرة، حتى بات المجتمع الفلسطيني، في جزء كبير منه، مسلّحاً. ولهذا من الطبيعي، عند حدوث أي خلاف، كُبرَ أم صغر، أن يلجأ الفرقاء للرصاص. لهذا أيضاً، لا بد من إعادة السلاح إلى مخازنه، وفي خطوة قادمة، بعد شيء من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، يُصار إلى جمعه، ووضعه جميعاً تحت القانون وتحت مظلة الشرعية القانونية.

هذه هي أهم القضايا أمام جلسات الحوار الوطني. والشعب الفلسطيني ينتظر عمّا تتمخض عنه تلك الجلسات. فإن فشلت، كما لا نتمنى، فليس أمام أبو مازن، وليس أمام شعبنا، سوى خيار الاستفتاء الشعبي. وحينها فليأخذ الشعبُ مصيره بيديه، وليقرر هو لا قادته السياسيون. فإن اختار طريق التطرف، فليدفع حينئذ الثمن، راضياً غير شاكٍ، وإن اختار طريق العقلانية، فعلى الأرجح، لن يذهب قراره سدى، ولسوف تُسمع كلمته في غير مكان من هذا العالم الواسع.
أخيراً ثمة كلمة لا بد منها، قبل أن تنتهي جلسات الحوار : إن من المفيد تذكير بعض قادتنا ببديهة أن شعبنا يصارع، منذ ستين عاماً، على وطن وقضية لا على غنائم حرب. وهذا ما يجب أن تفهمه كل القوى، وبالذات فتح وحماس. فكما يبدو لي، فقد اختصر بعضهم نضالاتنا المريرة، وتحت وهم خروج قوات الاحتلال من قطاع غزة، إلى مسألة التصارع على غنائم حرب وأسلاب وما شابه. وهو أمر جد خطير وفادح، ولا يحيل إلا على تفكير مغلوط وقصر نظر وعماء بصيرة. فسقف طموحات شعبنا، أعلى مليار مرة، من هذا التصوّر. ولا بد لمن لا يعرفون هذه البديهية، أن يعرفوها ذات يوم، حين لا يجدي ندم ولا تجدي تأوّهات!
ويكفي شعبنا ما يواجهه يومياً، من إرهاب الدولة الإسرائيلية، ومن قتل الأبرياء، ومن تجويع الأطفال. ومن معاقبة المرضى. ثم تأتون أنتم، وتحت آلاف الحجج التافهة المبتذلة، لتزيدوه عذاباً على عذاب، ومعاناةً فوق معاناة. إنني أتكلّم على وإلى الجميع، وبالأخص الأخوة والقادة في فتح، الذين، كما هو واقع الحال، لم يستوعبوا درس خروجهم على حين انتخابات، من كراسي السلطة، ومن مباهج وامتيازات هذه السلطة!