لا أعرف أين قرأت هذه الحكمة، في كتاب فلسفي أم في رواية لماريو بارغاس يوسّا. المهم أنني منذ قرأتها، في صائفة العام 1998، على ما أذكر، وأنا أرددها بيني وبين نفسي. أرددها وأحفظها، كلحن داخلي أسيف. فثمة ما يؤكدها على الأرض، وما يرسّخ صحتها، من ملايين التفاصيل اليومية، في حياتنا نحن الفلسطينيين المقيمين فوق ما تبقى من تراب فلسطين التاريخية. جاء إخوتنا ورفاق دربنا من تونس الخضراء، محمولين على رافعة اتفاق أوسلو. ولأول مرة في تاريخهم وتاريخنا، صاروا قادة وحكاماً ومسئولين. على بقعة محدودة من الأرض، وضمن مواضعات سياسية شديدة البؤس والصرامة. جاءوا متعطشين للسلطة أية سلطة. ووجدوا بعضها، فاكتفوا به، دون طموح حقيقي، للعمل على الوصول لسلطة معقولة السيادة، تلبي تطلعات شعبهم الواقعي، إلى تحقيق حل مقبول. بعد تضحيات جسيمة استمرت على مدي قرن بأكمله تقريباً. جاءوا وفتح لهم شعبهم صدره على اتساع وكرم، هما فضيلتان أصيلتان في أعماق تقاليده وسيكولوجيته. فهؤلاء هم quot; الثوار والمناضلون quot; الذين تربّت أجيال من الناس على إرثهم. وهم من قبل ومن بعد، لحْمُ الكتف الحيّ، وفلذات الأكباد. لكن، وبمرور شهور فقط على عمر السلطة الوليدة، اكتشف شعبنا، أن أريحيته، لم تقدّر حق قدرها. لم تقدّر أبداً. بل حدث العكس تماماً : صار الشعب، بمختلف شرائحه ومنابته، هو جسر لهؤلاء، لا وظيفة له، إلا أن يعبروا عليه، نحو مطامعهم وجشعهم إلى المال والمرأة والسلطة والوجاهات الفارغة. وبما أن شعبنا طيب وصبور، مثل كل الشعوب العربية المحيطة به، وتلك هي مصيبته، فقد آلى على نفسه إلا أن يصبر صبراً جميلاً، أي بلغة الواقع، صبراً غبياً بلا حدود! فعلّهم معذورون، على نحو ما، ولعل ظروف قدومهم وتشكيلهم لجسم السلطة، أكثر تعقيداً مما يظن الناس العاديون والبسطاء، البعيدون عن خبايا وخفايا السياسة. لكن السؤال بقي حارقاً ومكتوماً : لمَ يفعل بنا هؤلاء ما يفعلون وكأننا أعداء أو على الأقل خصوم لهم؟ لمَ يعذبوننا؟ لمَ يهدمون الحد الأدنى من أحلامنا في البناء، والتنمية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب؟ لمَ لا يقدّرون عذاباتنا وتضحياتنا؟ لمَ يستهزئون بنا؟ لمَ يوظفون quot;الفدائي والمطارَد السابق في عهد الاحتلالquot; سائقَ سيارةٍ خصوصياً، لدى نسائهم المترفات؟ سائقاً برتبة جندي، فيما أولادهم هم، لا يدخلون إلى مناصبهم سوى مدراء عامين، وسوى ضباط برتبة نقيب ورائد ومقدم وأحياناً ما فوق؟ وكيف؟ كيف يستقيم هذا مع تقاليد راسخة في النضال والكرامة؟ صار السؤال يكبر يوماً بعد يوم، وما من جواب. بل مزيد من تدهور الأوضاع، على الأصعدة كلها. ما خلق فجوة نفسية بينهم وبين الناس. وما جعل هذه الفجوة، تتسع، إلى أن صار ما صار في الانتخابات، وانتصرت حماس. انتصرت حماس وانهزمت آخر قلاع ما تبقى من العقلانية الفلسطينية. وكل هذا بفضل الوطنيين الفتحاويين، وما جرّوه على شعبهم، باسم التحرير الوطني والنضال الوطني، من خوازيق ومخازٍ، يندى لها الجبين الوطني الحقيقي، الشريف. كل الجرائم أُرتكبت باسم quot; الوطنية quot;. كل الخطايا والأخطاء. وبالأخص الجرائم السياسية والاجتماعية. فأن تضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، فهذه جريمة، تنهار على إثرها إمبراطوريات، فما بالك ببقايا وطن، وبشعب مهدود، يصارع من أجل حقوق صعبة التحقيق ومن أجل رغيف يومي لا يقلّ صعوبة في كل حال؟ لن نوغل في الجرح، فحقبة السلطة الوطنية الفلسطينية، كما هو اسمها الرسمي، هي حقبة لم يُكتب تاريخها بعد. ولن يُكتب في القريب. إلا إذا تيسّرت لهذه المهمة، أقلام شريفة ومحايدة، بلا حسابات ذاتية وبلا عماء وزيغ فكرييْن. انتصرت حماس. وكنا بحكم قلة تجربتنا ورومنسيتنا، نظن أن الأمور ستجري على طبيعتها. حكمٌ ذهب، بكل ما له وما عليه، وآخرُ يأتي، بكل ما له وما عليه أيضاً. لكننا نسينا أمراً جوهرياً ومركزياً، وهو أننا مارسنا حقنا الديموقراطي في الانتخاب، دون أن نتمتع بالحدود الدنيا من ثقافة وتربية الديموقراطية. فنحن، مثل كل العرب والعربان، لا تقاليد لدينا في هذا المجال. ونحن مثل كل العرب والعربان، مجتمع عشائري قبلي، بطريركي ذكوري تسلطي الخ.. وهذه الأمراض العضال، لن تزول في يوم انتخابات أو ليلة. بل هي موروث قاتم، وإرث باهظ الوطأة عميق النفاذ. نحتاج إلى عقود زمنية، على الأقل، كي نتجاوزه، ونخرج من مآزقه وأزماته ومطباته. لقد وصلنا الآن، وبفضل يوم الانتخابات ذاك، إلى مأزق وجودي فلسطيني، لا يتجلّى فحسب في انسداد أفق الحل السياسي، بل يتعدّاه إلى الجانب الاجتماعي وهو الأخطر. فنحن، كشعب واقع تحت الاحتلال، لم نعرف يوماً، حدة هذه الاستقطابات، بين قوانا الفاعلة في ساحة العمل الوطني. استقطابات، سأظل أكرر وأحذّر من عواقبها الكارثية، على سلامة نسيجنا الاجتماعي أولاً قبل أخيراً. فكل ما يجري الآن على هذه الساحة، لن يصل بنا إلا إلى هاوية الحرب الأهلية. والذين يتذرعون بأننا شعب بلا إثنيات، أو طوائف وأعراق، لذا فمن المستحيل أن نقع في حرب، هم واهمون بالتأكيد. فالحرب الأهلية، لها عدة وجوه وزوايا. وهي في كل بلد تقع فيها، يكون لها أسبابها ومسبباتها، التي تختلف أو تتشابه مع بلدان أخرى.
الآن، طويت صفحة، من تاريخ شعبنا. وبدأت صفحة جديدة في كل شيء. أصوليّون يحكمون، بتفويض شعبي هائل. ووطنيون، منهم الشريف ومنهم غير الشريف، يجدون أنفسهم مهملين في الزاوية. فالناس كفرت بكل ما تربّت عليه من أدبياتهم. بعد أن تبيّن بالتجربة، أن ما تربوا عليه، إنما هو أوهام أو شيء من هذا القبيل. قد أكون قاسياً في تشخيصي، لكن، مَن يمشي في الشارع ويستمع إلى نبض الناس، يعرف أن قسوة الكاتب لا شيء بجوار قسوة الشارع المغدور في أحلامه الوطنية، المهدور في حقوقه الاجتماعية، الساعي وراء رغيف عزيز المنال، في هذه السنوات الثقال! طويت صفحة quot; الوطنية ملاذ الأوغاد quot;، فماذا عن صفحة quot; الأصولية quot;؟ وهل هي حقاً ملاذ السذّج والمثاليين، كما يبدو من التحليل الأولي البسيط؟ وهل ثمة من أفق سياسي واجتماعي أمامها الآن وفي المدى المنظور؟ لن نسرع بالجواب، وإن كنا نعرفه ونراه، كما يرى ابن آدم أصابعه. عزلة سياسية خانقة غير مسبوقة. حصار اقتصادي هو حصار جوع وتطويع وتركيع، يذكّرنا بحصار العراق قريب العهد. ولعبة سياسية دولية، لن يكون quot; الإسلام السياسي quot; إلا مهزوماً أمام جبروت لاعبيها الكبار. فيكفي أن quot; أمريكا quot; ومن خلفها إسرائيل، هما لاعباها الأساسيان. فماذا تنتظر حماس وماذا بعد؟ هل تنتظر مزيداً من جوع شعبها الذي انتخبها، كمكافأة له على انتخابه لها؟ وهل تنتظر أن تهبط مائدة من السماء، ليأكل شعب التيه المتضور جوعاً؟ وإلى متى تتصرف، ومن خلفها كل الإسلام السياسي العربي، وكأنها إمبراطورية ولا إمبراطورية الاتحاد السوفيتي المقبور؟ إنها لا تريد ولا تفكر في التغيير. وفقط تنتظر أن يتغيّر العالم من حولها. فهل هذا معقول؟ وهل هذا سيوصلنا إلى شيء؟ لقد انهار الاتحاد السوفيتي، لعدة أسباب، منها جموده الفكري والعقائدي، ومنها عمل أمريكا الدؤوب على هدمه من داخل وخارج. فلماذا لا تأخذ حماس العبرة، وهي أهون بما لا يقاس من دولة عظمى، صارت الآن، مجرد ذكرى في التاريخ؟ حقاً إن شعبنا سيىء الحظ والطالع بامتياز. فهو هرب من الرمضاء إلى النار. والآن يدفع ثمن هروبه غير الحصيف. قال لي راكب بسيط في الباص : ألا تحسّ مثلي بأن يوم الانتخابات كان هو أيضاً مؤامرة؟ فلما رأى اندهاشي، ضحك وقال : ليتنا لم ننتخب. وليتنا لم نخرج من بيوتنا في ذلك اليوم الكئيب. فها نحن الآن بلا رواتب، وبلا سلع في السوق. وبلا ضرورات كثيرة. على الأقل كنا في عهد الفاسدين، نجد اللقمة، ونقبض الراتب في 3 من أول الشهر. أما الآن، فلدينا رئيس وزراء شريف، ووزراء شرفاء، لكن ما الفائدة؟ فالعمل تحت إمرة الفاسد، مع توفير الضروريات، أفضل من العمل مع الأنبياء مع جوع وانتظار موجوع! هذا هو رأي الرجل. وقد لا نتفق معه بالمرة. ولكننا ملزمون بالقول إنه رأي يشيع وينتشر بشدة، كلما ضاق الحصار على أطفالنا، ومرضانا. فالمؤامرة سافرة ولا تحدث من وراء حجاب. وحماس مصرة على أنها لم ولن تتغيّر. أي إنها لم تستوعب الدرس ولم تتعامل معه، حتى هذه اللحظة، بحكمة السياسي وعقل السياسي. بل إنها تتعامل مع كل الآخرين، فلسطينيين وأجانب، بعقلها الإيديولوجي الدعوي. وهنا مربط الكارثة! فهذا العقل يصلح للمساجد والجوامع، ولا يمكن أن ينجح أبداً مع السياسة، بما هي علم وفن تحقيق أفضل الممكنات.
ذات يوم، قال الشاعر الشاب، بابلو نيرودا، في سياق غير سياقنا، وفي مزاج لحظة ربما يختلف أو يأتلف مع مزاج لحظتنا أن (الوطن، كلمة حزينة، مثل كلمة ترمومتر أو مصعد.) نعم يا بابلو، بل هو أكثر حزناً من كلمة ترمومتر أو مصعد. لأن ترمومترنا مكسور، ومصعدنا معطّل وهابط دوماً، فما هو الحل؟
جرّبنا الوطنية، فوجدناها ملاذاً للأوغاد، فماذا عن أصولية الإسلام السياسي، وهل هي، مرة أخرى وأخرى، ملاذ السذج والمثاليين من حالمي ولا واقعيي شعبنا؟
ها نحن، على كلّ، يا رفيقي، نُعاقب ونغصُّ كآبةً وجوعاً في الحاليْن!