ما كنا نخشاه، ونحذّر منه، ها هو يقع، أو تقع بعض مقدماته. أمس كان يوماً كئيباً في حياة الشعب الفلسطيني. بعد تصريحات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في العاصمة السورية دمشق، إندلعت المسيرات والتظاهرات، وتعالت التكبيرات في مساجد قطاع غزة والضفة. استيقظتُ في الثانية ليلاً، على أصوات الرصاص والهتافات، فظننت أن إسرائيل، اجتاحت المنطقة وأعادت احتلالها. لكنني فوجئت بعد دقائق، بأن الحاصل هو مشاحنات وملاسنات بين أنصار فتح وحماس. يوم كئيب، بدأ صباحهُ بحرق إطارات السيارات على مفارق الطرق، وانتهت ظهيرته بالاقتتال وضرب النار، في كافة جامعات الوطن، وليس فقط في جامعتي الأزهر والإسلامية الغزيتيْن. أما مساؤه، فمفتوح على المجهول، ومرشح لما خفيَ، فكان، كما أسمته العرب quot;أعظمquot; ! لن يجدي ههنا القول بأن هذه الحرب [ هي خط أحمر ]، فهذا ضرب من البلاغة التطمينية، لا ينفع مع تعقيد الواقع، إن حانت اللحظة. والمؤسف أنها هاهي ذي تحين. وهاهي ذي ترمي علينا بكلكلها المرعب، دون أن يتحرك واحد من عقلاء الطرفين، فالكل متمترس خلف مواقفه، والكل يتصيّد للطرف الثاني، هفوةَ لسان، أو فشة خلق. خالد مشعل نفخ في ما تحت الرماد، فأشعل الجمرة المختبئة، وأحمد عبد الرحمن، سكب عليها البنزين، فاستنفر مؤيدو ومحازبو التنظيمين قواهم، واستيقظت فيهم نعراتهم الفصائلية القبلية، كأنهم فقط كانوا ينتظرون الإشارة أو الشرارة. وكان هذا الذي نصِفُ تجلياته، على عموم الشعب المحاصر المُحتقِن. إنها، إذاً، نُذر الحرب الأهلية، تقرع طبولها في فلسطين. كأن شعبنا تنقصه المصائب والكوارث. حرب أهلية، ما لم تُحاصر في مهدها، ويُقصّر حبلُها، فستأتي على الأخضر واليابس، لا محالة. ذلك أن النفوس مُستوفزة ومتوترة ومشدودة الأعصاب. ففتح، التي فقدت في رمشة عين، كرسي الحكومة، لم تستوعب بعد ما حدث. أما حماس، المتلهفة للسلطة، بعد طول انتظار، فهي لن تسمح لأحد، أن يسحب البساط أو الصلاحيات من تحت أقدامها.

هكذا هي الصورة إذاً: حرب على كرسي الحكم، وما دون ذلك، فهو، يدخل في باب ما لا طائل من ورائه. حرب على كرسي حكم، هو آخر كرسي حكم في الكون، يستحق أن نتقاتل ونتطاحن من أجله. فهو كرسي متهالك، منخور تماماً، وبلا أدنى سيادة. إذ أننا جميعاً، سلطة ومعارضة، كنا وما زلنا تحت [ بسطار الاحتلال ] ! ضاعت هذه البديهة البسيطة، عن عقول وأنظار الطرفين، فكان أن أخذت الغوغاء والدهماءُ، بمقاليد الأمور وتصريفها، في أيديها. وكان أن اندلعت مقدمات هذه الحرب المجرمة القذرة، فكان من ضحاياها، الشاب والطفل والفتاة وعابر السبيل. إنه يوم العار في تاريخ شعبنا. يوم العار، الذي أتى سريعاً، وبأسرع مما توقّع حتى رجال الشاباك والموساد. فلطالما راهنت إسرائيل على هذا اليوم، ولطالما حلمت به، لتقول للعالم المتحضر: إنظر ها هم الفلسطينيون يقتتلون داخلياً، ويذبحون بعضهم البعض، فكيف سنثق بهم وكيف سنعطيهم دولة ! قال البعض إن حماس، بمثل هذا الصنيع، إنما ترحّل أزمتها الخارجية في الحكم، إلى منطقة داخلية، هي فتح وفساد فتح، ومراوغة فتح في إعطاء الحركة الفائزة، استحقاقات فوزها. وقال البعض إن فتح، تسعى جاهدة لإفشال حماس، وتوريطها في أزمتها الصاعدة المتنامية، كي تعود هي إلى الحكم. وأياً تكن الحقيقة، فإن ما يجري الآن، لهو جد خطير. فالناس، انتخبت حماس وجاءت بحكومتها، ومن خلفها بخالد مشعل، لإنقاذها من غول الفساد الداخلي أولاً وربما أخيراً. ولم تأت بهذه الحركة ممثلة في حكومتها، كي تهدم المعبد على رؤوس ساكنيه. أما فتح، فهي حقاً، تسحب البساط من تحت حماس. ولا يجوز لها ذلك بالنسبي وبالمطلق. لكن أوضاعنا في المجمل، أكثر تعقيداً وحراجة مما يظنّ البعيدون الطبيعيون الذين يحيون حياة سياسية طبيعية، وأوضاعاً اجتماعية مستقرة. لذلك مسموح لها، أو لمؤسسة الرئاسة ممثلة بالرئيس، أن يتدارك ما يمكن تداركه، كأن يفرض سيطرته على [ المعابر ] مثلاً. فقط من أجل الحفاظ على المصالح العليا للشعب الذي انتخبه وانتخب برنامجه السياسي. فالكل كان يعرف، أن حماس، في حال تسلمها للمعابر، كانت ستفقدها، وستحرم كل سكان القطاع، من المنفذ البري الوحيد، المفتوح لهم على العالم. لقد أعلن هذا، وبأكثر من مرة، قادةُ جيش الاحتلال أنفسهم. وخرجت إشارات واضحة من الأوربيين العاملين في المعبر، بأنهم سينسحبون، توطئة لعودة الجيش المحتل، فيما لو وضعَ المعبر تحت سلطة وإشراف حماس. هذه حقائق يعرفها القاصي والداني. فلماذا تغضب وتثور حماس؟ وهل من مصلحتها كحركة، أن تسجن شعبها، في رقعة أشبه بالزنزانة، وتقفل أمامه جميع الأبواب؟ لقد قال الحكماء منا ومن أربعة أركان العالم، إن أفضل حل لمأزق وجود سلطة برأسين، هو أن تتصالح السلطتان، وأن تنسّقا فيما بينهما، وأن تتقاسما الأدوار، خدمة لشعبهما ولمصالح شعبهما. لكن، ومن عدة مؤشرات ووقائع على الأرض، يبدو أن هذا الكلام، صالح نظرياً فقط، وفاشل عملياً. فنحن في الأخير عرب، أي قوم مشغوفون بالسلطة، وعلى غير استعداد لتقاسمها. فإما أن تكون كاملة لنا، أو تذهب كاملة لخصمنا. هذا هو المأزق، وتلك هي المشكلة. والحق أنهما، المأزق والمشكلة، كانا من صناعة ناخبينا، حين انتخبوا أبو مازن وفق برنامج الرجل السياسي السلمي، ثم بعد ذلك انتخبوا حماس وفق برنامجها quot;الأيديولوجي المقاوِمquot;. دون انتباه إلى تناقض وتعارض البرنامجين واستحالة الجمع أو التوفيق بينهما. لقد حذّرنا من هذا، منذ لحظة فوز حماس، لكن قيل لنا حينها، إن الدستور يضمن للرئاسة مجال عملها الواضح والمحدد، وكذلك يضمن للحكومة صلاحياتها. ومرة أخرى، وقعنا في معضلة التوفيق بين نصوص الدستور النظرية، وبين الصلاحيات والمسئوليات على الأرض. فما هو الحلّ؟ وإن كان ثمة حل، فهل يرضى به الطرفان؟ وهل يقبلا أن يتنازل كل منها للآخر، عن بعض الصلاحيات هنا وهناك ؟ خصوصاً وان ذلك سيجنب شعبنا، الوقوع في خيارات سيئة، ليس أقلّها هذه المناكفات الحزبية الممجوجة، وليس أكثرها الوقوع في محذور الحرب الأهلية. لقد قيل قديماً، في أدبيات وأنواع الحروب، إن الحرب الأهلية تُعرف بدايتها، أي يُعرف تاريخ اليوم الذي تبدأ فيه، لكن، لا أحد تقريباً، يستطيع، مهم أوتي من بعد نظر سياسي، أن يعرف نهايتها. ونحن الآن، بالفعل لا بالقول، على أبواب حرب أهلية، ربما تُقبر بدايتها هذا اليوم، السبت، الثاني والعشرين من إبريل 2006، لكن لا ضمانات لدينا، على أنها ستُقبر مرة ثانية حين تندلع لأتفه أو أجلّ الأسباب. إن من حق جموع الشعب الفلسطيني، وبالأخص غير المنتمين لكلا الفصيليْن، أن يطمئنوا على مستقبلهم ومستقبل أولادهم. أن يكونوا مرتاحين حين يرسلوا أبناءهم إلى الجامعة، لتلقّي تعليمهم الأكاديمي، فلا ينتابهم القلق على عودتهم، ولا يخشون من احتمال موتهم أو إصابتهم، برصاصة أو كوع، من هذا الطرف أو ذاك. لقد شاهدت بأم عيني بعضاً مما حدث في المنطقة الجامعية، التي تضمّ كلا الجامعتيْن الكبريين: الإسلامية والأزهر. شاهدت ساحة حرب حقيقية، على الأسفلت وفوق أسطح البنايات. شاهدت آلاف الشباب من ذوي التعصب المقيت والدماء الحامية، وهم يقذفون الحجارة والأكواع، على بعضهم البعض، وسمعت أيضاً تكبيرات النصر المؤزّر: الله أكبر. كما استمعت إلى شهّاد عيان، كانوا هناك، في جامعة الأقصى وجامعة العلوم والتكنولوجيا، وفي بقية جامعات بلادنا. وتقريباً سمعت نفس القصة التي رأيت بعض مشاهدها: حرب بالحجارة والسكاكين، ثم بالرشاشات والأكواع والقنابل. وإلى الآن، وصل عدد المصابين، وبعضهم إصاباته خطيرة، إلى أكثر من خمسين إصابة. والقادم أخطر. فالمسألة لن تنتهي عند هذا الحد، بل ستكون لها مضاعفات وتداعيات، وهأنذا، قبل أن أنهي كتابة هذا المقال، أرى [ جحافل ] حماس، تخرج من مسجد المنطقة القريب، لتهتف لخالد مشعل، وللظلم التاريخي الواقع عليها. وهو نفس المشهد الذي سمعت هتافاته الصاخبة، ليلة أمس، حين خرجت تظاهرة كبيرة لفتح في المنطقة.
فمن ينقذنا من أنفسنا؟
ومن ينقذنا من هذا التجييش؟
ومن يرحمنا من قصر نظر حاكمينا؟
ومن ينظر لهذا الشعب الغلبان، بعد أن كفّت حتى قياداته المنتخبة عن النظر إليه؟