ما بين فتح وحماس، سنصبح شعب التيه. ما بين تجاذباتهما ومناكفاتهما ومصادماتهما، سنصبح شعب التيه. ما بين تنظيراتهما واجتهاداتهما، سنصبح شعب التيه. ما بين أخطائهما وخطاياهما، سنصبح شعب التيه. ولسوف يعيد تاريخ عدونا سيرته معنا هذه المرة. فلكَم يتشابه العدوان أحياناً. إن بقدر إغريقي، أم بتدبير دنيوي، أم بكليهما معاً. اليومَ أعلن تنظيم القاعدة في بلاد الرباط، عن نفسه، وعن وجوده بيننا. وأمس قُتل ثلاثة شبان في صدام مسلّح بين فتح وحماس. شبان أكبرهم لم يتجاوز سن الخامسة والعشرين. أما عموم الناس، فتنتظر الرواتب، كما يُنتظرُ غودو، دون بارقة أمل. الحكومة تدعو الشعب الذي انتخبها إلى الصبر والمصابرة. تحيلهم على الميتافيزيقا، بينما الفيزيقا تقضّ مضاجعهم، نهاراً وليلاً. وكل يوم، تزداد حيرتهم ويزداد أساهم. فالعالم تخلّى عنهم، وحكومتهم تخلّت عنهم، سواء عجزاً أم عماءً في التشخيص للوضع السياسي الدولي والإقليمي. يستيقظ الأب منهم، فيجبهه ولده الصغير، بحقه البدهي في الحصول على وجبة فطور، فماذا سوف يقول له؟ أيقول له عندما يطلب منه شيكلين للفول والخبز، أنّ [ الإسلام هو الحلّ ]؟ الولد يريد سكراً وشاياً وفولاً وخبزاً، ولا تعنيه الشعارات أياً كانت. فماذا يفعل الأب؟ ماذا يفعل يا حماس الحكومة ويا حكومة حماس؟ هل يحيل الولدَ إلى التاريخ الإسلامي المجيد، حين حوصر المسلمون الأوائل، فلم يهنوا وصبروا وصابروا، حتى قيّض الله لهم الفرج والنصر؟ إنها قصة تصلح للسمر لا لملء المعدة الخاوية. فالمعدة الخاوية لا يملأها سوى الخبز والطبيخ، من سوء الحظّ. ذلك هو قدرنا كبشر لهم أمعاء ومعدات، فماذا نفعل! هل غابت هذه البديهة عن ربابنة سفينتنا الجدد، حتى يستبدلوا الحقائق الكابية بالأوهام الزاهية؟ الشعب بدأ شهوره الأولى في عام المجاعة. وإن كان لديه بقية من رمق، فستنتهي هذه البقية سريعاً. شهران مرّا حتى الآن، ودخلنا في الشهر الثالث. فماذا بعد؟ ماذا ينتظرنا بعد؟ حماس وفتح مشغولتان بحساباتهما الفئوية، والشعب في عمومه خرج من حساباتهما. كل فصيل منهما يحاول تسجيل النقاط في ملعب الآخر. نقطة هنا ونقطة هنالك، وكفى الفصيلان شرَّ إطعام الشعب، وشرّ إيصاله إلى برّ الأمان الموعود. ففتح بفسادها العربي، كسرت أرواحنا. وجاء الدور على حماس الآن، لتذيقنا أمرّيْ الإسلام السياسي حين يحكم. فتح بانتهازييها، وحماس بدوغماءاتها. الانتهازيون الفتحاويون حوّلوا الوطن والقضية، بكل جلالهما الغارق في حُمرة الدم، إلى حساب بنكي شخصي. فعل هذا سياسيوها ومثقفوها على السواء، إلا من رحمتهُ مبادئهُ الوطيدة. والدغمائيون الحمساويون ورثوا حالاً لا تسرّ، فغرقوا في قلة حيلتهم، وفي عجزهم العملي عن فهم العالم وقوانين العالم. فهم مثل أية دوغماءات، لا يرون سوى ما في عقولهم. لا يرون quot; الخارج quot;، أياً كان هذا الخارج. لذا ها هم يقعون في عدة محاذير وخطوط حمراء، ما كان لهم أن يقعوا فيها، هم الخُضر، لولا طريقة فهمهم المغلوطة للعالم. لقد نسوا أن شعبهم اختارهم هرباً من جحيم الفساد الداخلي بالأساس. ولم يختارهم لعبقريتهم السياسية. فالكل يعرف أن الحلّ السياسي مفقود، مع وجود إسرائيل المتعنتة. مفقود، ما دام الطرف الرئيسي في المعادلة لا يريد حلاً عادلاً أو قريباً من العدل. نسوا هذه الحقيقة الداخلية التي ربما لا يوليها العالم الخارجي كبير اهتمام. وها هو يجرّبون على شعبهم طرقاً، ثبت فشلها في الماضي البعيد والقريب. إنهم يريدون دعم العالم لنا، وفق شروطنا نحن لا شروط دافع الضرائب الغربي. ويزعمون أن المسألة ما هي إلا صبر ساعة، ثم تنفرج الغمّة أو الأزمة، وينهار أو يتراجع العالم الغربي، أمام صمودنا ومثابرتنا! فهل بمثل هذا المنطق التبسيطي الهزلي، غير السياسي بالمرة، ستدير حماس شئون شعبها المحاصر والمحتل؟ سنصبح عما قليل، حقاً وصدقاً، شعبَ التيه! ولن يقتنع الإسلام السياسي بكارثة قصور فهمه، إلا حين تتجسّد وتكتمل الكارثة عِياناً على الأرض. والكارثة في طور الاكتمال. ولن ينتظر العالم طويلاً حتى تكتمل. فالدواء نفد من مخازن المستشفيات، وكذلك الضروري من الطعام، والضروري من المحروقات. بل وحتى الضروري من الورق. بما يعني عجز وزارة التربية والتعليم عن إتمام مهمة الامتحانات التي يقترب موعدها ويدق الأبواب. لا غاز منذ أسبوعين. لا طحين منذ أسبوع. لا دواء لأصحاب الأمراض المزمنة، كضغط الدم والسكري، منذ شهر. والمنظمات الدولية الإنسانية ترفع عقيرتها بالتحذير. وتقول إنها فوجئت بمدى تدهور الأوضاع المعيشية بالذات في قطاع غزة المنكوب. قطاع غزة الذي يقطنه حوالي المليونان من البشر الفقراء بأغلبيتهم الساحقة. والذي تسيطر عليه حماس سيطرة شبه مطلقة. ولقد استمع كاتب هذه السطور وشاف! استمع إلى قيادات في حماس، وهي تعتبر انتصارها في الانتخابات، مقدمة لإعادة تصنيع وإنتاج الخلافة الراشدة من جديد. قال له أحد هؤلاء، إن نصر حماس هو أول الخلافة. وها هو يوسف القرضاوي، منظّر الإخوان المسلمين الأكبر، يقول بأن فشل حماس هو فشل quot; للأمة quot;. فعن أي [ أول الخلافة ] يتحدث القائد المحلّي المغوار، وعن أي [ فشل للأمة ] يتكلّم الداعية الفضائي الأشهر؟ وهل بقي من خلافة، ومن أمة، حتى يُتكلّمُ عنهما حقاً! وإذا كان القائد الذي يعيش بين ظهراني شعبه، يتكلّم على هذا النحو، وكأنه من سكان المريخ لا كوكب الأرض، فكيف لنا أن نطمئن نحن غلابا هذا الشعب وغالبيته، على مستقبل أبنائنا تحت حكمهم؟ أبناؤنا فقط؟! كلا بل قُلْ أحفادنا! فالسيد مشير المصري، أصغر عضو في المجلس التشريعي سناً، والمتحدث الرسمي باسم حماس، يقول بأن حكومته جاءت إلى سدة الحكم، لتبقى عقوداً لا سنوات. وكل من يشكك في هذه الحقيقة، هو واهم من الطراز الأول. أما السيدان سعيد صيام، وزير الداخلية، ومحمود الزهار، وزير الخارجية، فقد أسمعانا الاسطوانة المشروخة ذاتها، عدة مرات لا مرة : اسطوانة أنه [ في حال إفشال حكومة حماس، سنقلب الطاولة على رؤوس كل اللاعبين ]. إنهما يستحضران هاهنا لعبة شمشون المهلكة : عليّ وعلى أعدائي يا رب! فكيف تكون الأمور، لو تمّ تنفيذ هذه التحذيرات؟ وكيف ستؤول لو تمّ هدم المعبد على رؤوس كل ساكنيه؟ وبماذا يكون الشعب الفلسطيني، قد كسب من وراء انتخاب حماس؟ إنه ذات العقل الانتحاري، الذي يُرسل أولاد الناس ليموتوا مفخّخين. فهل يجوز تجريبه سياسياً، بعد أن أرهقنا وحشرنا في أضيق زاوية من قبل؟ وهل يجوز هذا الكلام من وزراء، كانوا ذا عهد قريب في صفّ المعارضة، فحرمونا بعملياتهم تلك، من قدرتنا على الدفاع عن نبالة وحق الضحية أمام جلادها الغاصب؟ والآن هم في الحكومة، وما زال خطابهم هو هو لم يتغيّر! سنصبح شعب التيه عما قريب! سنصبح الشعب الذي قضى عليه أعداؤه من خارج، ودوغماءته من داخل، فيا فرحتنا إذاً! بعد قرن من عذابات التراجيديا، وقعنا بين مطرقة فتح وسندان حماس. وقعنا ضحايا للضربات التي تأتي من لحم الكتف ومن راحة الكفّ. الضربات التي تأتي من الخاصرة، ليندلع ألمُها في الخاصرة. فمن كان يتصوّر، أن يودي بنا يومُ الانتخابات البريء، إلى كل هذا العذاب الإضافي؟ إن القضية الوطنية كلها على مفترق طرق الآن. والنظام السياسي الفلسطيني، يعاني، في التوصيف الدقيق للأوضاع، من أزمة حكم لا أزمة حكومة. أزمة حكم تطال المؤسستيْن الحاكمتيْن، لا واحدة منهما دون الأخرى. والمسئول عن هذا، هما تنظيما فتح وحماس معاً بتركيبهما البنيوي الحالي. لذا، ومحاولةً في تلمّس حلول للخروج من عنق الزجاجة، بل من قعرها، لا بأس من طرح فكرة تكوين حزب كديما فلسطيني، على غرار كديما الإسرائيلي. كديما فلسطيني، يأخذ العقلانيين والمعتدلين والبراغماتيين من كلا التنظيمين. فعلّ هذا، ينقذنا من رحلة التيه القادمة. ذلك أنه لا أمل في اتفاق الحزبين الكبيرين، بما هما عليه الآن، من حقائق وصفات وأوضاع. فلا حلول وسط بينهما. وكل هذا واضح ولا يحتاج إلى اجتهاد. واضح حتى بات المواطن العادي، لا يرى حلاً خارج هذا الحلّ. أجل : كديما فلسطيني، لمَ لا، وكل شيء جائز في السياسة؟ كديما يعترف بمقررات الشرعية الدولية وبخارطة الطريق، وفوق ذلك، يمتصّ، كالإسفنجة، كل توترات وتجاذبات فتح الشائخة وحماس المراهقة؟ حل يبدو بعيد المنال كما ترون؟ ربما، لكنه، صدّقوني، حلّ معقول ومقبول، بشرط أن يتخلّى الفتحاويون والحمساويون عن تخندقاتهم، وعن مصالح حركتيهما الأضيق من ثقب الإبرة، أمام مصالح الشعب والقضية، وهما يواجهان الآن، وفي الشهور والسنوات القريبة، غول الحل الأحادي الجانب، من جانب حزب كديما في تحالفه مع حزب العمل. إنها خطوة عملية، قد تنجينا من مصيرنا المرعب، فلا نتحوّل، مثل أبناء عمّنا، في تليد تاريخهم، وطارف تاريخنا، إلى شعب التيه، فيقال حين يُرى الواحد منا، في رابعة ما تبقى من أرض، وفي أربعة أركان الدنيا، وأربعة أركان الريح، أنْ : هاهو ذا الفلسطيني.. انظرْ ودقّقْ : هاهو ذا الفلسطيني التائه!