كشفَ النائب الإداري العام للسلطة الفلسطينية، عن سرقة 700 مليون دولار، تمّ نهبها من الخزينة العامة، في السنوات القليلة الماضية. كما كشفَ عن توقيف 25 متهماً، وهروب عشرة من المتهمين الكبار، خارج البلاد.
حسناً..، فأخيراً ومتأخراً جداً، يسمع الناس، وبشكل رسمي، بعض الحقيقة، عما عرفوه وخبروه وكابدوه على جلودهم يومياً. ومع أننا جد مستائين، لهذا التأخير - الفضيحة، في الإعلان عن الموضوع، الذي يمسّ العصب الحساس للشعب الفلسطيني، إلا أننا راضون بعض الشيء، لأن زمن الحاسبة قد بدأ - كما نأمل ويأمل الجميع. ومثلما يقال، فأول الغيث قطرة. وهذه المبالغ الكبيرة، بالقياس إلى جوعنا، ما هي إلا قطرة مما نُهبَ من خبز الشعب الفلسطيني، الواقع تحت احتلاليْن : إحتلال كلكم تعرفونه، واحتلال الفاسدين، من ذوي القربى، ثوار المكاتب سابقاً، وأباطرة الامتيازات والصفقات لاحقاً. إن ما أُعلن حتى الآن، ما هو إلا رأس جبل الجليد الغارق. ويوم تُكشفُ كل الحقيقة، إذا قُدّر لها أن تُكشف، سيتفاجأ كل مناصري القضية في الخارج، بمقدار ما حوت مؤسستا منظمة التحرير والسلطة، من فساد واستبداد، لا يقلّ بأي حال عما هو موجود في أعتى النظم الاستبدادية البيروقراطية في العالم الثالث.
حين سمعت الخبر الطازج من الفضائيات، قبل نحو الساعتين، شعرت بطيف من أمل، فلعلنا أخيراً، نحاسب من نهبوا دم وقوت ومستقبل الناس الطيبين الغلابا، باسم الثورة ومبادئها، وباسم تحرير فلسطين، إلى آخره، من تلك الشعارات النبيلة التي تربت عليها أجيال كاملة من المواطنين والمثقفين في العالم.
لقد بدأ الفساد الفلسطيني، منذ بواكير الثورة في منتصف الستينات. حيث سيطرت فتح ممثلة بأبي عمار وبقية الأبوات، على مقدرات الثورة، والمساعدات الهائلة، التي كانت تأتيها من كل فج عميق. وقد جرت العادة، ألا يكون ثمة محاسبة ولا شفافية. فبالفهلوة والشطارة والعشوائية، تستطيع أن تسرق الملايين، وباقترابك من رموز الثورة التي تحوّلت إلى تابو يُحظرُ الاقتراب منه، أنت في منجى من أي حساب وعقاب. استمر هذا الوضع، إلى أن جاءت الثورة إلى أراضي الضفة وغزة، بعد اتفاقيات أوسلو. فتصرّف المناضلون الكبار والصغار، وحبايبهم وقرايبهم، على هديّ من هذا الفساد والإفساد، الذي أصبح بمثابة التراث القومي لثورتنا المظفرة، وهي تتحوّل إلى سلطة مسؤولة عن إطعام وتعليم شعب عانى طويلاً من ظلم الاحتلال.
ولما كنا، أهل الداخل، نسمع عن الفساد العربي المستشري في دول الجوار، ولا نراه. ولما كنا نحتكّ يومياً مع المجتمع الإسرائيلي، ونرى الشفافية التي بها يعيش قادته وأفراده البسطاء. ولما كنا كالصفحة البيضاء في هذا الشأن، فنحن لا سلطة لنا ولا مناصب، فقد استهجنا لهذه الاسباب وغيرها، ما رأيناه من فساد وتحلل سلطتنا الفلسطينية، منذ بواكير تشكيلها أيضاً. إذ رأينا فساداً غير مسبوق، يحدث أمامنا كل ساعة على الأرض. فساداً يشبه ما قرأناه وسمعناه عن الفساد في الأنظمة العربية من حولنا. ولذلك، ضجّ الناس البريئون عديمو الخبرة واستنكروا ما يحدث. لكن السلطة، لم تهتم، وواصلت الولاء لميراثها القومي، مستهترة بمشاعر السواد الأعظم من شعبها، ومراهنة على قلة من أهل الداخل ممن لا يملكون حصانة أخلاقية أمام المال والمناصب، استطاعت السلطة إفسادهم، والاعتماد عليهم، في لعبة تبادل المنافع والمصالح، أو ما أُصطُلح عليه ب [ عمليات التسليك ] .
إنها، إذاً، وكما بدأت تتكشف للمراقب، منذ أيام تأسيسها الأولى : سلطة جاءت بمشروع استثماري اقتصادي لا وطني. سلطة مثل أية سلطة عربية، تعيش كالطفيليات على دم وعافية شعوبها. رغم أن شعبنا له خصوصية تاريخية، وبالتالي فهو ليس مثل الشعوب الأخرى. لكن كل هذا كان ممنوعاً من الصرف عند سلطتنا، لأنها سلطة نفسها واستثماراتها وحساباتها في بنوك الخارج، لا سلطة الناس، المعنية بتخفيف آثار الاحتلال، والبناء بعد خراب.
حسناً...لا نحب الإمعان في الماضي القريب، فالكل في زمن القرية الإعلامية، يعرفه أكثر مما نعرف نحن قاطني المتاهة. ودعونا في هموم وشجون لحظتنا الراهنة. فالآن يُعلنُ عن بدأ مسيرة تصحيحية [ نربأ أن تكون كأخواتها العربيات ! ] مسيرة طال انتظارنا لها، حتى يأسنا من إمكانية حدوثها. لكن، مع قدوم حماس وفشل فتح، يبدو أن ثمة تغييرات كثيرة سوف تحدث. وهو أمر طيب على كل حال. فلقد عانينا طويلاً من خلايا الفساد السرطانية، حتى أوشك الجسد المعنوي للشعب الفلسطيني أن ينهار. وحتى استهتر بنا جارنا الإسرائيلي، ولم نعد نملأ عينه. بل حتى هُنّا نحن على أنفسنا، فغطّانا ضباب التشاؤم الكثيف، قبل أن ننكشف ونهون على الآخرين.
لذا، نأمل من أبي مازن، والمجلس التشريعي القادم، أن يتعاونا في هذا الملف الحساس، وأن يكونا جدييْن فيه، بما يناسب وعورة لحظتنا التاريخية، وبما يناسب الثقة التي وضعها المواطنون فيهما. فنحن شعب يمهل ولا يهمل، ونحن شعب ذكي من المستحيل الضحك على ذقنه، كأن تجري عميات مكياج ممسرحة لملف الفساد، ثم يُطمرُ على الباقي وكفى المؤمنين شرّ القتال. فالشعب المسروق، في لقمة عيشه وكفاف يومه، لن يقبل مثلاً، بوضع قلة من صغار الحرامية في السجن، بينما يهرب الكبار خارج البلاد، أو يمشون في الداخل، بعيدين، بما يتمتعون به من مليشيات ومافيا، عن سؤال : من أين لك هذا، القديم، وعن مساءلتهم قانونياً، في اللغة الحديثة.
ذلك أن ما حدث في السنوات العشر الماضية، شيء كبير وصادم حقاً. إذ لم يقتصر الأمر على آلاف السرقات والرشاوى والاختلاسات والمحسوبيات فقط، وإنما، وهذا هو الأخطر [ والكفيل بتدمير إمبراطورية كأمريكا والصين، لا كيان هش منقوص السيادة، مثل حكمنا الذاتي ] جرى ( تشريع الفساد ) في حياتنا اليومية، وصرنا نرى مَن يطالبون بثمن لكل نضال، سواء أكان حقيقياً أم موهوماً. فهكذا عوّدنا أبو عمار وطاقم حكمه : لكل شيء ثمن ! حتى كفر المناضلون الحقيقيون بماضيهم وتراثهم، فصرنا نراهم وهم نادمون على ما أعطوا، بعد أن ضاعت قيمة كل شيء نبيل في حياتنا.
الآن يُفتحُ الملّف. وعيون الشعب قبل عيون العالم تحدّق ولا ترمش. ولن يرضيها إلا محاسبة جدية كاملة شفافة، مدعمة بالأدلة والبراهين. فهذا حقها المشروع. حقها في أن ترى كل مَن سرقها يقبع وراء القضبان، ويعيد لها ما سرق ونهب. أما الهاربون والذين سوف يهربون إلى الخارج، وهم بالمناسبة كُثر، فعلى السلطة أن تجد السبيل القانوني، لإرجاعهم واعتقالهم. وعليها أن تنتبه وتمنع الذي لم يسافر بعد منهم، مهما كانت صفاتهم وسماتهم المعنوية والتاريخية. فلا أحد فوق القانون. وبالأخص الآن، حيث طمّ الفساد وعمّ، فلم يترك مفصلاً من مفاصل حياتنا، حتى الثقافي منها، إلا ونخرها.
نريد محاكمات قوية عادلة، ولا نريد ترقيعات هنا وهناك وهنالك. فزمن المكياج قد ولّى. والآن يريد الناس الذين ضاعت حياتهم، ولا سبيل لاسترجاعها، أن يطمئنوا على مستقبل أبنائهم. وعلى أن هؤلاء لن يضيعوا مثلهم. إنه طلب عادل. طلب يعيد ثقتهم بهذه السلطة، فلا يتعاملون معها على أنها غابة يأكل فيها الذئاب من ليس ذئباً، كما جرت العادة في السنوات العشر الأخيرة، بل هي سلطة لكل مواطنيها : سلطة للجميع، لا للأبوات وأبنائهم وأحفادهم إلى يوم الدين آمين !
التعليقات