أتأملُ العقل الديماغوجي وأغصّ في الأسى. فهو سيد من يخلط الأوراق، وسيد من يضع كل البيض في سلة واحدة. تلك هي طبيعته، وذلك هو ديدنه، بغض النظر عمن يحمله، سواء أكان هتلر أم موسوليني، أم نتنياهو أم بعض المتأسلمين العرب. ومناسبة قولي هذا، هو ما يجري الآن من ردود أفعال هائجة، على الرسوم الكاريكاتورية إياها. وآخر هذه الردود، وأخطرها، ما أتحفنا به بعض مسلّحي التنظيمات في مدينة غزة، من هجومهم المظفر على مقر الاتحاد الأوروبي، وإغلاقه، وترحيل موظفيه وموظفاته، بثيابهم البيتية، إلى مطار بن غريون. وفوق ذلك، تهديدهم الصريح والمباشر، بحرق كنائس إخوتنا المسيحيين العرب الأقحاح في المدينة، إذا لم يعتذر رئيس وزراء الدنمارك شخصياً، بل ويعتذر الاتحاد الأوربي كله، لا أقلّ!
كل ذلك يحدث، تحت سمع ونظر الجميع، ولا أحد يحرك ساكناً. بل كل ذلك يحدث، بينما قادة هؤلاء المسلحين، يبتسمون لصنيع فتيانهم، ويشجعونهم على المزيد منه، في العلن والعلن ! وسط مسرح عبثي لا ضابط فيه ولا رابط. ووسط صمت مهين جبان من النخب الفلسطينية، في حقلي السياسة والثقافة معاً.
إنه العقل الديماغوجي بامتياز. العقل الغرائزي المفعول به لا الفاعل. العقل الذي صنع هزيمتنا العسكرية والحضارية، منذ نصف قرن، ولا يزال. العقل الذي لا يسوى أن نسمّيه بالعقل ! فهل من العقل أن نطرد موظفي الاتحاد الأوروبي، وقد جاءوا، أصلاً، لتقديم المساعدات لنا في نكبتنا المتواصلة؟ وهل من العقل في شيء، أن نهدد بحرق كنائس إخوتنا ورفاقنا المسيحيين الفلسطينيين، شركائنا في الأرض والمصير، فقط لأن من رسم تلك الرسوم كان مسيحياً ويعيش في آخر الدنيا؟ وهل من العقل أن نقلّد ما حدث في العراق، من الاعتداء الإسلاموي على كنائس إخوتنا العراقيين هناك؟ أين العقل في كل هذه المهزلة؟ وماذا لو لم يعتذر رئيس الوزراء الدنماركي، وهو على الأغلب لم ولن يعتذر، لسبب بسيط جداً، حيث لا ملكية ولا رقابة للصحافة هناك من قبل الحكومة؟ هل حينها، سينفذ المسلحون تهديداتهم، وقد وضعوا مهلة لا تتجاوز ال 48 ساعة، بدأت في النفاد؟ وماذا فعلت السلطة الفلسطينية بأذرعة أمنها الكثيرة كالأخطبوط؟ هل استعدت لاحتمال تنفيذ التهديد؟ وهل بالتالي بذلت مساعيها لحراسة الكنائس الفلسطينية؟ أم أنها لم تأخذ التهديدات على محمل الجد بعد؟ ولن تأخذها إلا بوقوع الفاس في الراس، على جري عادتها في غير صعيد؟خصوصاً ونحن نرى تصاعد وعُصاب حملات ردود الفعل، ولا نعرف إلى أي حد ممكن أن تصل؟
إنه العار حقاً. العار أن نصل إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط. فالمسيحيون الفلسطينيون والعرب، هم الوجه المضيء لنا في العالم. وهم الوجه المشرق لنا في الداخل، وعياً وسلوكاً حضارياً، وقدموا لفلسطين، كما قدم المسلمون العرب. فماذا دهى قادة تنظيماتنا حتى يلعبوا بالورقة المسيحية الآن؟
لقد قلنا مراراً، إن سلاح quot;المقاومةquot;، سيرتدّ للداخل، لا محالة، فورَ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة. بل سيصبح وبالاً علينا وعلى طموحات شعبنا المشروعة. فالعقل الذي يمسك بهذا السلاح، لن يقبل بانتهاء دوره التاريخي، ولن يرضى بـquot;بطالةquot; ما بعد الانسحاب. فهو تعوّد على استخدام هذا السلاح، في تحقيق مآرب شتى، ولن يقبل بوضعه أخيراً في المخازن، وقبول حياة الناس العادية السلمية، كمواطنين متساوين أمام العقد الاجتماعي وتشريعاته وقوانينه. أي سيحاول تشغيل هذا السلاح، في كل فرصة ومناسبة، للقول للجميع بأنه (هنا والآن)، وأن دوره ووجوده لم ينتهيا. حتى لو تم ذلك، على حساب كل القيم والمبادىء السامية، التي من أجلها كانت كينونة السلاح وكان شرف معناه. أي حتى لو تحوّل المقاومون إلى ما يشبه : عصابات ومافيا، فوق كل تشريع وقانون، كما تصدمنا مجرياتُ الواقع الفاقع من حولنا!
إننا إذ نكتب كلماتنا هذه، لا نبالغ ولا نهوّل. فمهمة الكاتب أن يلتقط أي إشارة خطر، أو نذير بالخطر، لا تنتبه له الأغلبية، وأن يجعله تحت الضوء. حتى لا يمرّ، فيمرّ بعده ما هو أكبر وأخطر منه. من هذا المنطلق، نطالب محمود عباس، بوصفه رأس السلطة، ورئيساً لكل الفلسطينيين، بفعل ما هو واجب لحماية إخوتنا المسيحيين في الضفة والقطاع. ونطالب قادة تنظيماتنا، وبالأخص الدينية، وتحديداً الجهاد وحماس، بوصفهم القوى الفاعلة على الأرض، باستنكار تلك التهديدات الرعناء، على الملأ، والتشديد على أبنائهم، على الملأ أيضاً، بالالتزام التام بالهدوء والتعقل. وإلا فنحن والمجتمع الدولي بأسره، سوف نحمّلهم العواقب.
إن الشعب الفلسطيني، وبالأخص الآن، وهو على أبواب أن تحكمه حماس، ليس بحاجة إلى مصيبة جديدة، تنضاف لمصائبه التي لا تُحصى. ولن نسرد على أحد، تاريخ المسيحيين في بلادنا، ومقدار ما قدموه من مساهمات فكرية مركزية، ومن إرث نضالي، لقضيتنا ولمجمل همومنا الوطنية والقومية. فهو تاريخ معروف وناصع وأشهر من أن يُعرّف. وإنما فقط نريد تذكير هؤلاء الذين يهددون، ومن يقف وراءهم، بأننا أصحاب مركب واحد ومصير واحد. وعار عليهم، مجرد تهديدهم، حتى لو لم ينفذوه. فهو، شيء نشاز وشاذ في تاريخنا الوطني الفلسطيني، القديم والحديث. وأفضل لهم أن يسترجلوا على رموز الفساد والمفسدين، ممن حوّلوا حياتنا إلى جحيم، بدل هذا الهراء، وهذا التطاول، على جزء أصيل من نسيج شعبنا، جزء كان وما زال، من خيرة وأخيار هذا الشعب، عبر مسيرته التاريخية المعمدة بالدم والوعي والتضحيات.
لقد جرحَ تهديدُ المسلحين، خاطرَ إخوتنا مسيحيي الضفة والقطاع، ونحن نطالب مَن يقفون وراء أولئك الفتيان، بالاعتذار لهم، على هذا الفعل المعيب، مثلما يُطالبون هم باعتذار رئيس الوزراء الدنماركي. أم أن الأمور وصلت عندنا إلى حد الفوضى، وحد اختلاط الحابل بالنابل، حتى لا مكان للحكماء بين ظهرانينا، وحتى لا مجال لعقلٍ سوى العقل الديماغوجي؟!
إن حرق الكنائس الفلسطينية، لو تمّ تنفيذ التهديد، لا سمح الله، سيكون لطخة عار في جبين كل أبناء الشعب الفلسطيني، والمسلمين منهم بخاصة. وسوف يفاقم من وضعنا الرث أمام العالم، ولن يكون في صالح المصلحة العليا بأي حال. بل سيأخذ من خانة مناصري قضيتنا، وهم كُثر في المشهد المسيحي الدولي، ويضيف إلى خانة مَن يكرهوننا ويتمنون لنا مزيداً من الإخفاقات والعثرات.
لذا على السلطة وحماس وكل القوى، وقبلهم وبعدهم، على جميع المواطنين الفلسطينيين الشرفاء، أن ينتبهوا، وألا يسمحوا لأحد، مهما يكن، مسلحاً أم غير مسلّح، بالاقتراب من كنائسنا، وتنفيذ ما يدور في رأسه الفارغة! إن هذا لأفضل، مليون مرة، من بيانات الشجب والاستنكار الكاذبة المنافقة، بعد وقوع المحذور ! أليس كذلك أيها الفلسطينيون؟
التعليقات