فاجأت حماس نفسَها وفاجأت الجميع، بفوزها الساحق المدوي على حركة فتح. وآخر الأخبار التي وردت من لجنة الانتخابات المركزية، وهي الجهة الوحيدة المخولة بإعلان النتائج، تقول بحصول الحركة على أكثر من سبعين مقعداً، مرشحة للزيادة وربما تصل إلى 75 مقعداً من مجموع مقاعد المجلس التشريعي المئة واثنين وثلاثين. أي فوز ساحق لحماس بنسبة 70 في المئة من أصوات المقترعين. وعليه، فحماس هي من ستشكل الوزارة القادمة، ضامنة بذلك أغلبية مريحة في البرلمان، تؤمّن لها كل خطواتها السياسية في المستقبل. ما يعني أنها ليست بحاجة للتحالف مع أي تنظيم صغير أو كبير، ومع ذلك، فلعلها ستلجأ إلى هذا الحل، كنوع من توسيع قاعدتها الوطنية بالأساس، وكنوع من الشراكة السياسية.

مفاجأة وتسونامي بكل المقاييس!
مفاجأة زلزلت فتح، تنظيم منظمة التحرير والسلطة الأكبر، بعد أربعة عقود ونيف من وجوده في الحكم. وأربكت القوى الأخرى. حتى بدا الجميع، غير قادرين على تحليل هذه الظاهرة، مكتفين فقط بالغمغمة والذهول! فما هو السر وراء هذا الانتصار الساحق الماحق ؟

وهل كان لحماس أن تنتصر على هذا النحو، لولا ترهل فتح وفساد رموزها ؟ ولولا مسيرة من الأخطاء والخطايا ؟ مسيرة راقبها ودفعَ ثمنها المواطنُ الغلبان ؟.. الحق أن فتح حصدت ما زرعته، طوال أحد عشر عاماً، هي عمر السلطة. فقد تصرفت، منذ اليوم الأول، بمنطق الحزب العربي الحاكم. أي بروحية وعقلية، أن فلسطين مزرعة لها، وأن الفلسطينيين، يعملون فيها لصالحها. ولعلي أخالف في هذا الشأن، كل من يقول، بأن غياب أبو عمار، وبقاء الحركة بلا رأس، هو واحد من الأسباب الجوهرية، لأفول فتح. لأن جزءاً كبيراً من فشل فتح، يعود إلى نهج أبو عمار وطريقته في تصريف الأمور. فأبو عمار، كما يعرف الجميع، كان يراكم الصديد على الجرح، ولم يسع مرة لعلاجه العلاج الصحيح. والأمثلة أكثر من أن تُحصى، ولنأخذ مثالاً واحداً فقط، هو الفساد المالي والإداري المستشري في جسم السلطة منذ تأسيسها. فبدلاً من أن يحاسب أبو عمارالمفسدين من حوله، كان يرقيهم ويرفعهم، مستهيناً بعقول ومشاعر الغالبية من شعبه الفقير المُحبط. ومراهناً على هؤلاء الفاسدين، وهم قلة، بدلاً من المراهنة على مجموع الشرفاء والمناضلين، وهم بالطبع الأكثرية. كل ذلك صدمَ الناس وأفقدهم ثقتهم في نهجه هذا، وجعلهم يتذمرون منه، ويتأففون. ولقد لعبت حماس، تحديداً، على هذا الوتر الحساس، وتر الفساد الداخلي، الذي يمسّ شؤون الناس اليومية والحياتية. وكان ذلك سهلاً عليها، كتنظيم معارض خارج السلطة. تنظيم يمتلك من الإمكانات المادية، ما يسمح له بالتغلغل بين الجماهير، كبديل لحزب السلطة. والقاصي والداني، يعرف أن حماس، ذكية ومتمرسة في العمل الاجتماعي، وذكية في تركيزها عليه. فمن بابه الواسع، تستطيع كسب ودّ الناس، وخاصة الفقراء والمستورين منهم، وهم الطبقة الكبرى في النسيج المجتمعي الفلسطيني.

اشتغلت حماس، إذاً، على هذا الجانب الحيوي، الذي يمسّ مصالح الناس اليومية، وسجلت نجاحات كبرى فيه. بينما ظلّت فتح مشغولة، كحزب للسلطة، بتقاسم الكعكة، والتكالب على الامتيازات والوظائف، إضافة إلى تشرذمها الداخلي، وصراع الأجيال فيها. فإذا أضفنا إلى كل هذه الجوانب الجوهرية، جانباً آخر، هو إبداع حماس العسكري في عملياتها داخل إسرائيل وفي الضفة والقطاع [ من وجهة نظر الناس بالطبع ]، عرفنا لمَ فازت كل هذا الفوز.

إن فساد فتح تحديداً، هو صانع انتصار حماس. يقول ذلك حتى أبناء فتح أنفسهم. ويقوله معظم المراقبين المحايدين. فقد وصلت غالبية الفلسطينيين، إلى قناعة مؤداها، أن لا فائدة، من انتظار أن تُصلح فتح نفسها بنفسها، فقد اتسع الخرق على الراتق كما يقال. ولا بد من التغيير : تغيير الوجوه بالأساس، بل لا بد من قلب الطاولة على أصحابها، لعل وعسى.. وهذا ما حصل. بل هذا ما كنا حذرنا منه منذ بدايات تشكيل جسم السلطة : تكرار النموذج الجزائري. إنه إذاً نوع من انتقام الناس، لكل من يستهين بمشاعرهم وعقولهم. والآن تدفع فتح نتيجة ما صنعت. لقد جرّبها الناس، أحد عشر عاماً ونيف، ففشلت في التجربة، وكان ذلك سبباً أكثر من كافٍ، لكي لا يعطيها شعبها فرصة أخرى. ربما تكون فتح ظُلمتْ كتنظيم، حين تماهت مع السلطة، وربما ثمة أسباب أخرى، دولية وإسرائيلية وداخلية، وراء سقوطها المدوي. لكن، في كل الأحوال، على فتح أن تأخذ العبرة، وأن تتعلم من هذه التجربة القاسية. أما حماس، فمنذ هذه اللحظة، أصبحت حزب السلطة الحاكم، ورغم تشاؤمنا الشديد من فوزها الكاسح، وما يترتب عليه من تجليات اجتماعية وسياسية، إلا أننا نقبل به، ما دمنا قبلنا بمبدأ الاحتكام إلى صندوق الاقتراع. فهذه هي الديموقراطية الحقيقية، ولا من سبيل آخر. الديموقراطية التي ترفضها حماس في ثقافتها العقيدية، وتستفيد منها رغم ذلك! ليكن، فالمهم الآن : ماذا ستفعل حماس في قادم الأيام ؟ وهل ستغيّر من شعاراتها البراقة، كحزب معارضة سابق، بعد أن تسلّمت السلطة ؟ ثمة إشارات كثيرة وذات دلالات، على أنها ستفعل. فمنذ شهر وحماس ترسل إشارات سياسية، وترد عليها قوى إسرائيلية برسائل واضحة. ما يعني أن ثمة شيئاً ما وراء الأكمة. ونحن نتمنى ذلك : نتمنى حلاً سياسياً معقولاً ومقبولاً، بعد كل هذا العذاب. ونتمنى أن يُحاسب المفسدون، وأن تُفتح ملفاتهم، ليكونوا عبرة لغيرهم. كما نتمنى أن تعالج حكومتها القادمة، مشكلة البطالة المتفاقمة، سواء عن طريق عربي أو أجنبي، إذ وصل الحال إلى درجة الغليان، وبلغت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر أكثر من 60 % من سكان الضفة والقطاع. هذه أمور تعرفها حماس جيداً، بل ووعدت بإيجاد حلول لها. إنها تعرف، أن ما يهمّ ناخبها هو الوضع الداخلي بالأساس، بعد تجاهل فظيع لهذا الوضع، أما الوضع الخارجي متمثلاً في الحلّ السياسي، فربما يحتاج إلى معجزة، ليست حماس مجبورة عليها. لذا فلسوف تركّز غالباً على الأوضاع المعيشية. لكن حتى هذا مشروط بواقعية لغتها السياسية. وما لم تغير من خطابها القديم، فلن يدعمها أحد، ولن تعطيها الدول المانحة قرشاً.

لذا، فعلى الأغلب، أن تسعى حماس لشراكة سياسية مع مختلف التنظيمات الفلسطينية، كي لا تتحمل وحدها نتيجة الإخفاق في تلبية مطالب الناس، وهي جد كثيرة وثقيلة، بل هي فوق طاقة حماس، كما كانت فوق طاقة السلطة ممثلة بفتح.

أخيراً، نقول لحماس، إن أمامها أربع سنوات، هي بمثابة امتحان عسير للحركة، وعليها أن تثبت نجاحها فيه، وإلا فإن ما حصل لفتح سوف يحصل لها بالتأكيد. فقد ملّ شعبنا من الشعارات، ويريد حلولاً لمشكلاته المزمنة المستعصية. حلولاً توفر له الحد الأدنى المعقول من مطالب الحياة التي لا ترحم. ونحن نتمنى لها النجاح في هذا الشان، كي لا يكون فوزها الساحق، وكأنه تسونامي جديد يدمّر الأخضر واليابس مما تبقى من مقدرات هذا الشعب العظيم المظلوم!