من يتأمل في مسيرة النوع البشري، ويمعن التأمل، لن يجد صعوبة، في اكتشاف ما لحق بالبشرية، من خراب ودمار، على يدي غول الأيديولوجيا، منذ كان هؤلاء البشر وكان هذا الغول الرهيب.. ولن نوغل في التاريخ القديم، لنعرف ونتأكد، بل سنتكلّم فقط عن القرن الماضي، وما حدث فيه من حروب، هي الأبشع والأفظع في التاريخ كله. فقد شهد هذا القرن الدموي، حربين كونيتين، راح ضحيتهما مئات ملايين البشر الأبرياء، ودُمّرت مدن كبرى على رؤوس ساكنيها، وجف الزرع ونفق الضرع، من أجل بضعة أطماع، تحركها بضعة أفكار، هي في حقيقتها، ما يمكن تسميته ب[الأيديولوجيا] في لغات العالم الحديثة. وليس غريباً أن يرد على ذاكرتنا، في هذا المقام، أسماء كل من أدولف هتلر وموسوليني وستالين. فهؤلاء القادة، كانت تحركهم وتدفعهم إلى الحرب، سواء داخل بلادهم أو خارجها، رؤية محددة، تصدر عن أيديولوجيا واضحة، بغض النظر عن اسمها وعن طبيعة منطلقاتها، كأن تكون فاشية، تارة، نازية أو اشتراكية، طوراً. إذ طحن هؤلاء الجبابرةُ المؤدلجين، البشرَ من حولهم، وجعلوهم ضحايا، وأرسلوهم إلى الموت، في غير أوانهم، فقط لكي يؤكدوا، لأنفسهم أولاً وقبل كل شيء، صوابية أفكارهم، وصلاحيتها للحياة والوجود، بصفتها الوحيدة القادرة، على التقدم بشعوبهم إلى بر الأمان والأمام. ولقد كان غول الأيدولوجيا يكبر ويتعاظم خطره، كلما كبر العقل البشري، وانفتحت أمامه أسرار المادة والطبيعة والصناعة.. الخ. لذا تعاظم خطر الأيديولوجيا في القرن الماضي، كما لم يشهد التاريخ من قبل. فهذا الغول، الذي يحيل على الخرافة، في ثقافات كل الشعوب، تحوّل، بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي، إلى غول حقيقي، مادي، متعيّن، لا يبقي ولا يذر. ولعل حسبة متخصصة في آثار الزلازل والأعاصير والأوبئة، سوف تكشف لنا، أن ما لحق بالبشرية من جراء هذه الكوارث الطبيعية، يبدو متواضعاً جداً قياساً لما لحق بها على يدي غولنا الرهيب. إذاً، فالأيديولوجيا، هي الخطر الأكبر على البشرية. يتساوى إن كانت وضعية أم غير ذلك. فالنتيجة، تقريباً، واحدة. بل يقيناً، إن الأيديولوجيا غير الوضعية، أسوأ وأخطر، فهي بتماسها مع المقدس، تدنّس كل شيء، وتبيح كل شيء. من الحجر إلى الشجر إلى البشر، من أصغر الجرائم حتى أكبرها، لأنها بطبيعتها لا ترى ولا تفرّق. فهي منكفئة على ذاتها، كحيوان وحيد الخلية، وكالدودة. حيث إن أبرز سماتها الفارقة هي أنها لا ترى [الآخر]، ولا تلتفت له، ولا يعنيها على أي وضعية وأي صفة يكون! فعينها لا تشتغل، وإنما يشتغل عقلها ذو الأفكار: أي إن أفكارها هي التي تعمل وتنكّل، أما العينان فلا تريان، إذ هما مقلوبتان إلى الداخل والداخل فقط. بل يوجد ما هو أسوأ وأنكى: فحامل وخادم الأيديولوجيا، لا يحس حتى بجسده، ولا ينظر لهذا الجسد، إلا كوسيلة وأداة لتنفيذ أفكاره. لذلك، يمكن القول دون مبالغة، إن الأيديولوجي، عملياً، لا جسد له! وعليه، فكيف نطلب من فاقد الشيء أن يعطيه ؟ كيف نطلب منه أن يشعر بجسد الآخر، وبكيانه المادي والمعنوي، وهو ذاته بلا جسد ؟ إن من صفات الفطرة الفارقة، الإحساس العميق بالجسد، ومراعاته وتلبية حاجاته. كما إن من صفات الحداثة الفارقة كذلك، احترام الجسد الآدمي، وعشقه وتدليله، واحترام مجاله المغناطيسي، وخصوصيته الفردية، وصدّ الألم عنه، قدر الإمكان وقدر الطب. فالجسد، في كلتا الحالتين السابقتين، هو آلتنا الوحيدة، التي نعيش بها ومن خلالها، فنعمل ونستمتع ونحقق ذاتنا وأحلامنا. إذ لا ذات ولا أحلام، خارج نطاق الجسد. هذه البديهيات غائبة عن الإيديولوجي، ولا تحضر ربما، إلا وقت النكاح والأكل، بمعنييهما البدائيين، دون خطوة وعي أبعد. وأنت مهما تكن وأياً كنت، لن يكون لك جسد، ما دمت تلغي أجساد الآخرين. لقد أوغل الفن الحديث، وهو محق في هذا تماماً، في احترام وتقديس الجسد الآدمي الجميل، بعد قرون وعصور من احتقاره والتعامل معه كخطيئة يحملها المرء أينما كان وحيث يكون. أوغل هذا الفن، في خطوة، ربما تكون رد فعل للاضطهاد القديم، ولعصور كاملة من الظلمات، أُستخفَ خلالها بالجسد، ومورست ضده، كل أنواع الإرهاب. فلم يكن يحضر هذا الجسم آنذاك، إلا وتحضر معه فوراً فكرة [الإثم] و[الدنس]. والمسيحية الوسيطة أكبر شاهد على ذلك. أما في عصورنا الحديثة، فقد تغيّر الأمر، وأُعيد الاعتبار للجسد المقدس، بعد اعتذار طويل من رجالات الفن والعلم والفلسفة، لهذه الآلة الأروع والأبدع، والتي لولاها، لما كنا ولما كان لنا كيان أو جيشان أو عنفوان. وإني أقرّ بأنني أحد كبار المفتونين بالجسد الآدمي، وبالأخصّ: جسد المرأة. فلطالما لفتني جماله الباذخ، وتكوينه الإعجازي. وبرغم أني رأيت عشرات آلاف الأجساد، إلا أني كالنار أطلب المزيد. أطلبه، لكي لا تذهبوا بعيداً، كمتعة لا تُضاهى للنظر، وكوقود للشعر والكتابة، أي أطلبه لذاته، كمتعة خالصة صوفية مجردة، فلا شيء أروع وأبدع من جسد المرأة الشابة. ولعلكم قرأتم معي رواية [ زوربا اليوناني] للعظيم كزنتزاكس، وتلك الجملة الحارقة التي قالها زوربانا، في لحظة تأمل، عشية مقتل عشيقته الأرملة، عن جسدها الفذ... [كم من سنوات، كم من سنوات، اقتضت الأرضُ حتى تنجح في صنع جسد كذاك! إن من كان ينظر إليها كان يقول في نفسه: quot; أن أكون في العشرين، وأن أبقى بمفردي معها على الأرض وننجب الأطفال معاً، لنعمّر العالم! لا، ليس أطفالاً، بل آلهة حقيقيين quot;... ]. وأنا الصغير، أمام العملاق الكريتي، أقول بدوري، ما قاله ملايين الناس من قبلي، كم معجزة احتاج الله لكي يخلق النهد الأنثوي، مثلاً، بهذا التكوين الجمالي البديع ؟ وكم معجزة أخرى لكي يخلق الأفخاذ والركبة والذراعين الخ الخ! لقد تجلت عظمته أو عظمة الطبيعة، على أروع صورها، حين خلق الجسد البشري. فلا مخلوق آخر، يعادل هذا الجسد، إبداعاً، حتى أن الكثيرين، يشعرون بالقهر أحياناً، بالرغبة في البكاء، أخرى، بالتقى والورع والجلال، في تارات غيرها، وهم يتأملون جمال هذا الجسد. إن جسدنا، تحديداً، رغم أمراضه وعلله وشيخوخته وإفرازاته وآلامه، هو، بكلمة، الفن الخالص، إذا أمكن الجزم. وكل من يعرف ويحس بهذا، تراه يوقر ويحترم جميع الأجساد، من نوعنا ومن الأنواع الأخرى. بشراً وحيوانات وأشجاراً، نعم أشجاراً، فالأشجار هي الأخرى، لها أجساد، وعلينا حق واجب بتوقيرها، وعدم العبث بها، لأنها مثلنا تماماً، تستحق الحياة. أقول كل هذه التقدمة، وفي خاطري ونيتي، الحديث عن ظاهرة مرعبة، ارتبطت بنا كفلسطينيين، وهي ظاهرة [الكاميكاز ] أو [الانتحاري]. ومع أنها ظاهرة سياسية، مرتبطة بسياق تاريخي معين، إلا أنني لا أزال غير مستوعب لها، وغير مصدق لكل ما يقال حولها من تخريجات وتبريرات، دينية أو وطنية، أو خليط منهما معاً. بل إني أنظر إلى هذه الظاهرة، نظرة وجودية لا سياسية. وعلى أي الحاليْن، فإني أرفضها ويقشعر بدني كلما تذكرتها، أو تذكرت من ذهبوا ضحايا لها، من جيراني ومعارفي والأبعدين، وهم أو هنّ، في مقتبل العمر وميعة الصبا والمراهقة. فهؤلاء مجرد ضحايا، سيقوا إلى حتفهم البشع، وخلفهم ترسانة من التسويغات الدينية، السنية تحديداً، لا يقبلها أي عقل متوسط أو حتى ساذج. ومع هذا، فثمة الكثيرون قبلوها ولم يكونوا من الساذجين أو متوسطي الذكاء. فكيف لنا أن نفهم الأمر ؟ سأقول بتبسيط مخل التالي: لو كانت لهؤلاء حياة، حد أدنى من مباهج الحياة، أي أفق مفتوح أو موارب، لما كانوا فعلوا ما فعلوا. فقد وصلوا إلى ذروة اليأس والإحباط وانسداد الأفق. ومع هذا، هأنذا أكذب على نفسي وعلى القراء، فأردد كليشيه، بعد أن أعيتني الحيَل! والله ما أنا فاهم، ما أنا بفاهم، وكل الكتب التي قرأتها، لم تسعفني ههنا بشروى نقير أو نفير! كيف يقتل الشاب نفسه، وبهذه الطرق الأكثر بدائية ؟ أتوجد مصيبة أكبر من هذه! إنه شيء فوق الطبيعي والعقلي، فوق الغريزي والثقافي. وإني لأسأل وأحار كلما راودني السؤال، فلا أجد أمامي إلا أن أجأر بنفثة مصدور: آه كم هم البشر غامضون! آه كم هم عصيون على التأويل والتحليل. حقاً إن حياة البشري لا تشكو من قلة الألغاز، وإن غول الأيديولوجيا، لواقف له بالمرصاد. لكنني على قناعة تامة، بأن البشري محبّ الآداب والفنون، هو آخر من يفكّر في مثل هذا الأمر. فالفن، عكس الدين، يوقر الحياة، ويقدس الجسد الذي هو آلتها، على نحو بالغ العمق واليقينية، بحيث لا يأتيه الشك، من بين يديه ولا من خلفه. فالحياة، تقول لنا خلاصة ُ الفنون والفلسفات، أجمل وأكبر من نعت [جميلة]، ليش ولا مؤاخذة ؟ لأنها، ببساطة شديدة، توهب لنا مرة واحدة، وواحدة فقط. فمن هو المبذّر المتلاف، عديم الألمعية، الذي ينسفها ويفخّخها في نفسه وفي الآخرين!