نعم: باسم quot;المقاومةquot; وصلنا إلى ذروة العبث. العبث بحاضرنا، والعبث بقضيتنا، والعبث بمستقبل أجيالنا القادمة. العبث في كل صغيرة وكبيرة، والعبث على كل صعيد وفي كل صعيد. لكأن أحوالنا وأوضاعنا، التي يعرف الجميع مقدار هشاشتها وتعقيدها، بحاجة إلى مزيد من التعقيد والتأزيم!

في هذه المرحلة الحرجة الدقيقة، من حالنا السياسي المأزوم، كما هو حالنا الاجتماعي المأزوم، يأتي أمراء الجهاد، ليصبوا الزيت على النار، وليلقوا بجزء من شعبهم إلى نار الجحيم. اجتياحات في نابلس وطولكرم وجنين، وقتل وموت وتهديم بيوت، ومزيد من قصف قطاع غزة بقذائف الدبابات الثقيلة. القطاع الذي يُقصف ويُحرق، كل يوم، منذ شهر، بألف قذيفة، والآن سيزداد القصف، وربما يتضاعف العدد بحجة الرد على العملية الانتحارية الأخيرة في قلب تل أبيب.

عملية، توفر لعدونا، كل الذرائع، لكي يبطش بنا بقوته المفرطة. هو الذي لا يحتاج أصلاً إلى ذرائع. ولكنها في حال توفرها، تفتح شهيته على مصراعيها، وتوفر له الغطاء السياسي والأخلاقي، لكي يفعل بنا ما يشاء. ولكي يغطي على ما يريد أن يغطيه من أفعال. عملية، لو عرف فاعلوها والمحرضون عليها، ألف باء حساب الربح والخسارة، وألف باء السياسة، لاتقوا الله في شعبهم، ولكفّوا عن المهاترة والمغامرة بمصيره المعلّق على قصبة في الريح. فهذه العملية، وفي هذا التوقيت بالذات، بل وتحت أي توقيت، هي أكبر خدمة لليمين الإسرائيلي الحاكم. بل هي هدية له من السماء، كما يُقال. وفضلاً عن أنها تسيء أبلغ الإساءة إلى تاريخنا النضالي، كشعب مظلوم يعيش تحت نير الاحتلال، ويطالب بحريته، مثل بقية الشعوب، فهي تثير علامات استفهام مريبة حول إنسانيتنا، وحول نظافة وسائلنا في النضال. سيقال إن عدونا يقتل مدنيّينا والأبرياء العزل منا، كل يوم بل كل ساعة. وإننا نردّ عليهم ونعاملهم بالمثل. لكن هذا القول مردود عليه، فنحن الضحية لا الجلاد. ومحذور على الضحية أن تقلّد جلادها، في دمويته ووحشيته، محذور في كل حال وبأي حال. ليس فقط لأنها هي التي ستكون الخاسرة الوحيدة من جراء ذلك، بل أيضاً وأولاً، لأننا معنيون بصيانة وتأكيد تفوّقنا الأخلاقي والإنساني عليه؟ إن هذا التفوّق الثمين، هو مناط قوتنا الحقيقية، وهو رصيدنا المعنوي العظيم، نحن العزل من كل قوة مادية، أمام أنظار العالم المتحضر وأمام أنفسنا.

تأتي حركة الجهاد الإسلامي، الآن، لتخلط جميع الأوراق، ولتقلب الطاولة على لاعبينا نحن لا لاعبيهم. فلمصلحة من تفعل هذا؟ ولأجندة مَن؟ ألأجندة المقاومة حقاً؟ أم لأجندة quot; عليّ وعلى أعدائي quot;؟ أم لأجندة تخصّها هي وتخصّ حساباتها الحزبية لا الوطنية؟ بعد أن بات لكل تنظيم من تنظيماتنا حساباته الخاصة وأجندته الخاصة، وبعد أن وصلنا إلى حالة من التشرذم لم يعرفها تاريخنا الوطني، طوال المراحل النضالية السابقة.
نعم لماذا الآن بالذات؟ لماذا الآن وثمة في إسرائيل من سيذهب إلى المحكمة العليا، ليجبر الجيش على اجتياح بري واسع لقطاع غزة؟ ولماذا الآن بالذات، وأفق الحكومة الجديدة مقفل تماماً مالياً وسياسياً؟ ولماذا الآن بالذات، والحصار الإسرائيلي يضيّق علينا الخناق من كل حدب وصوب؟
حصار من الجو، وحصار من البر، وحصار من البحر. وفوق هذا قصف وموت وتجويع وإغلاقات وجدار عازل.. الخ الخ؟
ثم إلى متى تختلف الرؤى وتتفارق وتتصادم فيخسر الوطن ويخسر مواطنوه، في الحساب الأخير؟ ألم تحن لحظةُ أن نواجه الحقيقة بعدُ؟ وأما آن لنا أن نجلس جميعنا ونتفق على المصالح العليا لشعبنا : ما يضرّه وما ينفعه. وعليه، نتفق أيضاً على خطوط وطنية حمراء لا يحق لأي أحد منا تجاوزها، لأنها تضر بالمصلحة العامة لجميع ركاب السفينة؟ ثم ماذا كسب الشعب الفلسطيني من وراء العمليات الانتحارية داخل إسرائيل؟ علينا مواجهة هذا السؤال المؤجل، الذي يحتاج إلى شجاعة وفروسية من أجل الإجابة عليه. من وجهة نظري ونظر العديد من المحللين، لم نكسب شيئاً ولن نكسب شيئاً، بل خسرنا وسنخسر. وكم جرّّت علينا كل عملية من هذه العمليات، من ويلات ومصائب ومآس. وكم أفقدتنا من أصدقاء ومتعاطفين دوليين، في أربعة أركان الدنيا. نحن الذين بحاجة ماسة إلى كل متعاطف وصديق.
لقد تعب شعبنا من هذه العمليات الانتحارية ، التي هي ليست سوى انتحار سياسي، وليست سوى حماقة سياسية من الطراز الأول. ولقد خسرت قضيتنا وتراجعت في كل المحافل، بسببها. وقد آن أوان أن نراجع أنفسنا، وأن نكف عن دفن رؤوسنا في الوحل، تحت وهم أننا نوجعهم، وأنهم يألمون مثلما نألم. فإسرائيل الكولونيالية، أقوى دولة في الشرق الأوسط الكبير. ولن يهزمها أمثال هذا النوع من العمل المفخخ. رجل الشارع البسيط يعرف هذه الحقيقة. فكيف لا يعرفها سياسيّوه وعسكريّوه، إن كان لنا من سياسيين وعسكريين !
والأنكى، كأننا ناقصون quot; الأنكى quot;، أن فتح أعلنت مسئوليتها عن العملية، متبارية في هذا مع الجهاد. أما quot; الأنكى quot; الكبرى، فهي تأييد الناطق باسم حركة حماس، السيد سامي أبو زهري، للعملية، وقوله إنها تأتي في سياق الردّ على جرائم الاحتلال. فكيف يتساوق هذا التصريح، مع حماس الحكومة ومصالحها كسلطة تنفيذية؟ وهل يمكن الفصل حقاً، بين حماس الحركة وحماس الحكومة؟ إذا كان هذا هو خطابنا لأنفسنا، ولشأننا الداخلي، فكيف يمكن للعالم الخارجي أن يفهم هذا الخطاب المنفصم؟ هل نضحك على الناس أم نضحك على أنفسنا؟ وماذا لو اجتاحت قوات الاحتلال مدن الضفة والقطاع؟
إن شعبنا ممثلاً بقواه السياسية، أحوج ما يكون في هذه اللحظة الحرجة، إلى تقديم مبادرات. سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. فنحن بأمس الحاجة للاتفاق على معنى محدد وواضح وصارم لمصطلح quot; المقاومة quot;. وبأمس الحاجة كذلك، إلى تقديم مبادرة وضوح سافر لا غموض بناء. فالغموض البناء ينفع لأمريكا والقوى العظمى، لا لضحية لا تملك من أسباب القوة سوى أخلاقية كينونتها كضحية. وما لم نفعل ذلك، وبالسرعة الواجبة، فإن مستقبلنا وقادم أيامنا لمُظلم وسوداوي مثل كحل الليل.
لنواجه الحقيقة مرة واحدة في العمر. ولنترك المراوحة في اللغة وفي المكان. ولنقُل لشعبنا إن نزعة الثأر والانتقام لا تبني كياناً ولا دولاً. بل نضالنا السلمي وجبهتنا الداخلية المتماسكة، وخطابنا النبيل الواضح، خطاب الضحية صاحبة قوة الحق، هو من سيوصلنا إلى بر الأمان. أما إلحاق ستة قتلى وأربعين أو خمسين جريحاً بالإسرائيليين، فهذا ليس من البطولة في شيء، وليس من العقلانية في شيء. وفوق ذلك، فإن إسرائيل لقادرة على الرد، وعلى إضافة أصفار على يمين تلك الأرقام. فهل يصحّ لنا أن نتسابق في مثل هذا المضمار المأسوي الكارثي؟
قال هنري كيسنجر، ثعلب الدبلوماسية العالمي، ذات يوم، [ إن إسرائيل لا تملك سياسة خارجية، إنها تملك سياسة داخلية فحسب ]. وكان يسخر من ذلك. فهل صرنا نحن، مثل عدونا، بل أسوأ منه، لا نملك لا سياسة خارجية ولا داخلية، بل كل شيء يعتمد على مزاج الظرف واللحظة والتكتيكات المتضاربة، وحسب نظرية ردّ الفعل العربية الشهيرة، لا نظرية الفعل نفسه؟
إنه سؤال يحيرني حقاً. فالعقل السياسي الفلسطيني، كما يبدو، لم يتعلّم من تجاربه المريرة، وإن تعلّم، فببطء أين منه بطء السلحفاة !
أتعرفون لماذا؟
لأنه عقل، حتى لو بدا نخبوياً، فهو جبان في مواجهة أبناء شعبه بالحقيقة بكامل ظلالها ومتاهاتها. فهو يخشى من الدهماء والغوغاء والرعاع. مع أن هؤلاء موجودون في كل شعب. ورغم ذلك، ثمة طراز رفيع من القادة التاريخيين، كان شجاعاً فواجههم بلحظة الحقيقة، حتى لو جرّه ذلك، إلى الغياب الأبدي عن سدة الحكم ومسرح العمل السياسي.
فتى الجهاد، ذو الملامح الطفولية، قضى الآن. وقضى معه ستة من الإسرائيليين الأبرياء. وعلى الأرجح سيُهدم منزله، وسيُشرّد أهله. أما قادة الجهاد، فلا أعرف، بالضبط، وإن كنت أتوقع، ماذا سيقولون. لكنني في كل الأحوال، حزين لما حدث، وأدين هذه العملية، من أجل شعبي ومصالح شعبي العليا. كما أدينه وسأظل أفعل، من أجل القيم الإنسانية والمبادىء السامية، حتى لو أثار هذا الموقف، غضب واشمئزاز الآخرين من قدامى وجُدد المناضلين!