لم أكن أتمنى كتابة هذا المقال الثقيل على نفسي، لكن للضرورة أحكام. فبعد توقف الزميل والصديق العزيز، عدلي صادق، عن الكتابة اليومية، في صحفنا الفلسطينية، داخلاً وخارجاً، وتسلمه مهام منصبه، كسفير لفلسطين في رومانيا، كان لا بد مما ليس منه بد. بداية أود الإشارة، إلى شعوري بالألم بنوعيه العام والشخصي، من غياب اسم هذا الفارس النبيل، عن قرائه، وأنا واحد منهم. فقد تعوّدنا، مع مشرق كل صباح، على قراءة صحيفة الحياة الجديدة، من صفحتها الأخيرة، حيث مكان وعمود عدلي صادق. ففي هذا العمود، نجد أنفسنا، ونجد همومنا، ونجد جرأة وشجاعة عدلي في قول ما لا يقال عادة. وهو، بقلمه السائل وموهبته البارزة، لا يني يتابع كل تفصيل وهمّ وألم. ولا يكفّ عن الدخول الرسولي في عشّ الدبابير! إنه، كما يقول الناس عنه : كاتب الناس. وبما أن الناس في غالبيتهم، لا صوت لهم، كأغلبية صامتة، فقد كان عدلي صوتهم وضميرهم. صوتهم وضميرهم، بما هو واحد منهم، وبما هو مثقف يعي دور المثقف، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة والملتبسة من تاريخ الشعب الفلسطيني. بهذا تميّز عدلي، عن كتاب كثر آخرين، لهم أعمدة يومية مثله، ولكنهم يكتبون وعينهم على رضى السلطان، وعلى المكافأة الشهرية المجزية، ولا شيء أبعد من هاتين! فالناس وهموم الناس، أبعد ما يكونا موضوعاً لمقالاتهم. هذه المقالات التي بلا طعم أو لون أو رائحة! فقط إسهال يومي من الكلمات، وكل ثلاثين إسهال منها، بستمئة دولار أو أغلى قليلاً. حتى صارت الصفحة الأخيرة من جرائدهم، وبفضل تواجدهم، مؤخرة الجريدة لا أخيرتها! فهم متعاقدون مع الناشر لا القارىء. كما يفعل عادة صغار الصحافيين الأدعياء، الخالين من المبدأ والأخلاق المهنية والاعتبارية. أما عدلي، ابن خان يونس العظيم، فقد كان متعاقداً مع القراء أولاً وأخيراً. ولا يهمّه إن أخذ كاتبٌ ما أضعافَ ما يأخذ. ذلك أنه صحافي ميداني وكاتب رأي، معنيّ بتوصيل رأيه، كمثقف صاحب دور ورسالة، في مجتمع يعاني من فظائع الاحتلال وفظائع حاكميه، معاً وفي ذات الوقت!

أذكر، في المرة الوحيدة التي زرته في مكتبه، بمدينة خانيونس، بعد معرفة طويلة مشتركة من القراءة بيننا، أن جلستنا الحميمة تلك، قُطعت أكثر من مرة، من قبل ناس غلابا ذوي قضايا عاجلة وتفصيلية، وقع عليهم ظلم وغبن، فلجأوا إلى عدلي، كنصير وصاحب قلم حر، لرفع الظلم عنهم. والعجيب أن عدلي، كان يهتمّ بهم ويعطيهم من وقته ومن صحته، بسخاء وبأريحية، أكثر مما كنت أتوقع! فصاحب الحاجة لحوح، والمظلوم أَلحّ في المطالبة برفع المظلمة! قلت لعدلي : من أين لك الوقت للكتابة اليومية، ولاستقبال الناس، وهم أحياناً بالعشرات، كل يوم؟ لم يعقّب عدلي، بل ابتسم حيياً متواضعاً، بعد أن أنهى مكالمة بخصوص قضية واحد من هؤلاء مع مسؤول. خرجت من عنده، وقد رسخ في عقلي، معنى واحد، وهو أن هذا الرجل، بالفعل، وبالعمل، وبالكتابة، وبالسلوك، وبالقول، هو [ واحد منا ] : طينته من طينتنا، وفطرته من فطرتنا : نموذج فريد من الصحافيين المقاتلين، في هذا الزمن الرديء. زمن شراء الذمم، وشراء اللحم والعظم، وما هو أبعد! لذا فليس غريباً أبداً أن يُواجه كل يوم بالمتاعب والدسائس والمؤامرات، من جهابذة السلطة الصغار والكبار. بل لكَم تلقى عدلي من تهميش وتضييق، وأبعد من هذا، تهديدات! فمافيا السلطة، لا تحتمل شاهد عدل، وشاهد صدق، مثل عدلي صادق. إنها تريد من الصحافيين الفلسطينيين، ومن غيرهم، أن يروها فقط، وأن لا يروا شعبهم. فهي، وكما هو مألوف، حتى صار الأمر تقليداً سياسياً واجتماعياً، لا ترى أحداً سواها. حتى لو كان هذا [ الأحد ] هو مجموع الشعب الفلسطيني، الذي يُعدّ بالملايين! فهي تتعامل مع هذه الملايين، وكأنهم، أي الملايين، هواء غير مرئي! أي من منظور استعلائي وفاشي، هو عكس أحلامنا تماماً، وبالضد من أحلام وشجون عدلي وكل الشرفاء الفقراء من شعبه.

لقد همّش نبيل شعت، الوزير الأبدي، والنائب عن مدينة خانيونس في المجلس التشريعي، والذي لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بجماهير خانيونس، همّش عدلي صادق وحاصره في وظيفته، بل جمّده وأجلسه في البيت، منزوع كل الصلاحيات، فقط لأن عدلي ليس من رجال الأباط!

لن أسرد ما حدث لهذا الكاتب الكبير، وهو كثير ومؤلم، فقلمه أطوع من قلمي. وأقدر على الإفاضة، من قلمي النزِق، لكنني أقول، وبكل الغصة في الحلق، إن القارىء المحترم والجاد، خسرك يا عدلي. ولا يوجد بين ظهرانينا، من يعوّض هذه الخسارة اليومية، بمقاييس قلمك ومواصفاته. إن غيابك الآن، عن الصفحة الأخيرة في الحياة، لهو أقوى من حضور بعضهم، بل إن حضورهم لا يذكّرنا إلا بغيابك!
عموماً، آمل لك ولنا، أن تعطي في مجال عملك، كسفير، لفلسطين المجروحة، أكثر مما أُتيح لك وأنت وكيل وزارة مجمّد في بيتك، عقاباً لك على سنوات سجنك الطويلة في سجون الاحتلال، وعقاباً لك على [ طول لسانك ] من وجهة نظرهم، وأيضاً، عقاباً على مسيرتك وسيرتك كليهما، كمناضل من أجل حرية شعبنا الصابر، ومن أجل خروجه من بطن حوت الفساد والاستفراد، وانتهاك حقوق الناس يومياً.

ولإن ضاق عليك وبك فضاءُ السلطة، كما قلت، فإن فضاء فلسطين، فلسطين الحُلم والفكرة والفطرة، أرحب وأوسع بكثير! تلك هي كلماتك، وأودّ فقط تذكير القراء بها. وتذكيرهم أيضاً، بأن فضاء الحرّ لا يكون إلا في مشاع الحرية. أما مكانتك في عقول وصدور قرائك، فهي بالتأكيد، أوسع حتى من فضاء فلسطيننا الأعزّ.
لقد كنت رجل صدق وعدل. ولم تخن دورك كمثقف، وفوق ذلك، كنت صاحب أبهى وأجمل عمود يومي في صحافتنا الفلسطينية. حتى أنني، كما تذكر، بخلتُ بك على كتابة العمود الصحفي، وتمنيتك كاتباً معنا في حقول الأدب والرواية.
سلاماً أخي ورفيقي عدلي،
و
ووداعاً أيضاً!