هل يوجد quot;مثقفquot; وquot;قدريquot; معاً حقاً؟ هل يمكن الجمع بين المفردتين؟ ولماذا لا نقولها من الآخِر: إنه إما أن تكون مثقفاً، وإما أن تكون قدرياً؟ ثم: كيف لمثقف بوعي شقي مأسوي، وهي أهم خصيصة تميّز المثقف الحديث عن سواه، أن يؤمن بالقدرية، التي هي أيضاً، أهم خصيصة تميّز رجل الدين- الداعية - خطيب الجمعة، عن سواه أيضاً وأيضاً؟
في حياتي المعاشة، لا المتخيَلة، رأيت وعاشرت العديد من هؤلاء، الذين يتوهمون أنهم مثقفون ومبدعون، ومع ذلك، فهم، مثل خطباء الجمع الحزينة دائماً، قدريون وقدريون بامتياز! فهل هذا ينفع؟ وكيف لقدري أن ينتج كتابة محترمة وباقية؟ بل كيف له أن يفهم ويرى على نحو يؤهله للكتابة البشرية بسوية عالية أو حتى منخفضة؟ أسئلة أسئلة، والجواب مغتال أو مؤجل! في بلاد الآخرين وأزمان الآخرين، تُكِلّمَ كثيراً عن المثقف الموضوعي، عن المثقف العضوي، عن المثقف التنويري النهضوي، عن المثقف ال.. إلخ. لكن، ما من مرة اهتم القوم هناك بالحديث عن المثقف القدري. لأنهم، ببساطة وبداهة، لا يتحدثون عن أمور غير موجودة. فلا مثقف لديهم، يستأهل هذه الوصف أو الصفة، يضيّع وقته ووقت الآخرين، بالدعوة إلى الإيمان بالقدر والقدرية. ليش؟ لأنّ هذا الإيمان، يمحو مركزية الإنسان على الأرض وفي الأرض. ويستبدل إرادته، بإرادة عليا، هي عملياً، غير موجودة. وهي عملياً، من قبيل التوهّمات والأوهام. ذلك أن المثقف القدري، هو مثقف لا تاريخي، مثقف خارج التاريخ. وخارج الفعل والإرادة الإنسانيتيْن. مثقف أسير للماضي، ولا تربطه بالحاضر والمستقبل أية رابطة. مثقف يحيا في الزمن البشري المعاصر، لكنه يفكر ويعي خارجه تماماً. أي أنه مثقف سلبي، غير منتج للحظة التاريخية، بل هو يعيش عالّة عليها.
وما أكثر هؤلاء في مشهدنا. تجلس مع الواحد منهم، فلا ترى ثمة فرقاً حقيقياً، بينه وبين رجل الدين أو رجل الشارع، في وعيه للعالم من حوله. فإن تقدّمت خطوة أخرى، وقرأت ما يكتبه، فلن تجد، على الأرجح، سوى رجل يلعب على اللغة، يزركشها ويزخرفها، ويقدمها لك دون محصول معرفي أبداً. فقط تصفيف كلمات وتكديس كلمات، حتى بدون أن يخفي صنعته ككاتب. فخواؤه الفكري، يفضح حتى صنعته وتقنياته ككاتب. أي هي كتابة مفككة بلا حامل معرفي يستند إلى تجارب حقيقية ووعي محترق بتفاصيل العالم. فالمثقف القدري، استاتيكي، ميكانيكي، جامد، تبسيطي، يراوح، في أحسن الأحوال، حول موضوعه، ولا يدخله أو يخترق سمك قشرته الخارجية. بكلمة أخرى: فالمثقف القدري، رماد بلا نار. كلماته ركام يضاف إلى ركام العالم، لا ضوء يكشفه. إنه يعيد إنتاج المكتوب، يقلّده، بإضافات سيئة غالباً. إنه روح خنزير تحت إهاب آدمي. حتى لو كان مثالياً، بل لهذا السبب وغيره من الأسباب القريبة. فكل مثقف قدري هو بالضرورة مثقف مثالي. هذا الصنف منهم، انقرض في الغرب، منذ ثلاثة قرون. ولم يعد له من أثر، إلا في نطاق جد محدود ومهمل. لكنه، ههنا، في هذه البلاد المحاصرة بتخلّفها، ما يزال فاعلاً وموجوداً، لأن الخطوط لم تزل ممدودة ما بين المثقف العربي والفقيه الداعية. والفصل بينهما، لم يتمّ بعد. فهذا يحتاج إلى مرحلة تاريخية ما، مرتبطة بالاقتصاد والتنمية ووجود المجتمع المدني، وكل هذه لم تنضج ولم تتبلور في بلادنا إلى الآن بالطبع. لذلك، يتماهى الإثنان: المثقف القدري ورجل الدين، حتى لو اختلفت نواحي نشاطهما، ويتداخلان في حضورهما وتأثيرهما. فكل منهما مكمل للآخر. وكل منهما امتداد عضوي للثاني.
إن المثقف القدري هو نقيض المثقف الحديث. نقيضه في كل شيء: في طريقة نظره للعالم. في آلية فهمه لما حوله. في ديناميات قراءة وإنتاج المعرفة. في طبيعة دوره ووظيفته. في كل شيء تقريباً: بل حتى في طريقة استخدامه للغة. فلغة المثقف القدري، هي نشارة خشب على الأغلب الأعمّ. بينما لغة الآخر، متوترة قلقة مستوفزة، منهمكة في طين الحياة، وملفوحة بحرارتها. فكلاهما يصدر من مناطق متضادة، ويذهب إلى غايات متضادة. المثقف الحديث، نسبي، معني بما يحدث ومعني بتطويره والذهاب به إلى درجة أعلى من التطور. بينما القدري، يقيني، معني بالتثبيت والتبريد والتجميد، على وهم إعادة إنتاج اللحظة أو الحقبة الماضية. ولذلك، نرى المثقف القدري، قريباً بل خادماً للأوضاع السائدة، ولسادتها. فتلك هي منطقته التي يجيد اللعب فيها. أما المثقف الحديث، فوعيه الشقي المأساوي، وعيه التاريخي النسبي بامتياز، يمنعه بل يضعه على نقيض السائد والشائع والثابت. ثم إن المثقف القدري لا يتمتع بفضيلة الطموح الفكري أبداً. بل هو مكتف بالموجود وممتن له. وكي لا نوغل في عقد المقارنات بينهما، نكتفي بهذا القدر الآن. لنقول إن المثقف القدري، كمن يسبح في البحر الميت: يطفو دائماً ويطيش فوق ما يكتبه. ولا يستطيع، تحت أي ظرف كان، أن يغوص ويستبطن ويستغور: أن ينزل إلى لؤلؤة الأعماق، كما يليق بحامل فانوس الوعي، في ليل هذا العالم.
من هنا، تسعى المؤسسات الثقافية البيروقراطية إليه. فهو مريح في التعامل، ورهن لإشارتها وسرقاتها. أي يسهُل وضعه تحت الآباط، بالتعبير الفلسطيني الدارج. لأنه، بروحه الميتة، بيروقراطي روتيني، إمعة. تلك هي صفاته الفارقة، وذلك هو سر نجاحه المادي في المجتمع المريض. أما صفاته الخارجية، فهي الطمع في الدنيا والجشع إليها. التوسل للوصول إلى المناصب، فقيمته في منصبه لا في ما يكتبه. الباطنية، بما هي نقيض الشفافية. احتقار الحقيقة. لذا هو أكثر أنواع المثقفين صلاحية للمؤامرات الدنيئة. وأكثرهم جاهزية لخدمة أصحاب النفوذ السياسي. إنه، سواء قبل هذه التهمة أم رفضها، كلبُ سلطة. كلب مؤسسة. كلب منصب.. الخ. رجل يستخدم كلامه، مكتوباً أم منطوقاً، كرافعة اجتماعية. ولعل من المفيد هنا، التذكير بأن المثقف القدري، هو مثقف شفهي لا كتابي. مثقف مؤمن بالشفاهية لا بالمكتوب ذي النظام. فهذه مرحلة لم يصلها المثقف القدري، بعد، حتى لو كتب عشرات الكتب. فالكتابي، هو أولاً عقل منظم، وتقاليد نسقية متعارف عليها. وهذان: العقل والتقاليد، لا يعرفهما المثقف القدري. ومع هذا، ثمة مفارقات في هذا المجال، لا بأس من ذكرها، على سبيل المعرفة والفكاهة أحياناً. منها أن المثقف القدري، أحرص المثقفين، على اقتناء التكنولوجيا، من سيارة وكمبيوتر وتلفون وبلفون، إلى غير ذلك. بل هو أحرص على هذا، من المثقف الحديث، ذي الوعي المأسوي، وذي الانهماك الداخلي العالي في شؤون وشجون وتعاسات هذا العالم. فالأخير، يعنيه أن يقرأ ويتعلّم، بما هو كائن ناقص دوماً، كائن لا تنتهي فجواته. ولا يلتفت غالباً إلى المظاهر الخارجية الكذابة. على عكس أخينا الذي لا يعنيه شيء في العالم أكثر من الحرص على المظاهر الكذابة. فهو كالبوص، مجوف وفارغ. وكالبوص، قصبة يمر فيها جُزافُ الريح، فلا تعطي لحناً ولا نغماً إلا بالصدفة وبالصدفة فحسب!
ثم إنه كائن كمّي لا كيفي: كائن يعنيه الكم لا الكيف. بمعنى: كم كتاباً ألّف وأنتج. لا كيف كتب هذه الكتب. ومن تجربتي، أننا كنا ذات مرة في لقاء مع عشرة كتاب عالميين، بينهما حاملا نوبل سووينكا وسراماغو، فقام واحد من هؤلاء المثقفين القدريين، ليقول كلمة، فقال إنه كتب 18 كتاباً.. فلم أملك منع نفسي من الابتسام باحتشام في حضرة أديبين كبيرين، واحد منهما وربما الإثنان، لم يكونا في ذلك الوقت (غزة 2002) وصلا إلى هذا الرقم في مسيرة تأليفهما للكتب! أما أخونا، الحريص على صلواته الخمس، حرصه على استخراج الشواكل حتى من الجلمود الأصمّ، فالكل يعرفه: رجل متخصص في إعادة إنتاج نشارات الخشب! رجل يذرع أروقة اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بما هو نائب للرئيس (لاحظوا اتحاد الكتاب الفلسطينيين!) وهو مبلول دائماً من أثر الوضوء. طالع من الحمّام ذاهب إلى الحمّام، كالمكوك. فأقل شيء يفسد وضوءه. ولا شغلة ولا مشغلة لديه إلا هوس صيانة مداخله ومخارجه. يدخل الاتحاد فيتوضأ ويصلي ثم يجلس كي ينتج معرفة تليق بتضحيات شعبه العظيم. ولقد ظل منذ ذلك التاريخ (2002) إلى هذه اللحظة، وأراهن: إلى أن يموت، وهو ينطق اسم quot; سراماغو quot;، في لقائاته التلفزية الكثيرة جداً، بهذا الشكل: quot; سرمغوا quot;. فهو بالطبع لا يستطيع نطق هذا الاسم الغريب. ثم إنه لا يعرفه ولم يقرأ له كلمة. وربما لو عرف أن عظيم البرتغال وعظيم الدنيا، كتب عدة روايات فقط، 4 أو 5 روايات، لما كان غلّب نفسه، وذهب للقاء أديب صغير مبتدىء!
هذا هو المثقف القدري، مثقف البوص الفارغ والجوز الفارغ. إنه الأعلى جعيراً الآن، في مزايداته ضد التطبيع. وفي مزايداته على القومية الفارطة، وفي مزايداته على تعظيم الانتفاضة الفاشلة، ومباركتها وتمجيدها، رغم أنها أودت بشعبه كله إلى الجحيم. وفي ما شابه. رجل بلا فكر، وبكثير من المناصب وحسب. وحسب؟؟؟ نعم: وحسب. فأبشر أيها المجتمع المريض، وافرح، فهذه هي نخبتك، وهؤلاء هم عناوينك الثقافية المصدرة للعالم.