الآن، وأنا أشرع في كتابة هذا المقال، أسمع هدير المروحيات العسكرية، وهي تمرّ من فوق سطح بيتي، رائحة غادية، في حركة نشطة ومحمومة، لآخر مرة ربما، منذ 38 سنة كاملة. فهذه الليلة، ليلة الإثنين 11 على 12 من شهر سبتمبر، سوف تكون، عند الغزازوة، بخاصةٍ، والفلسطينيين، بعامةٍ، ليلةً تاريخية بكل المقاييس. إذ غداً، ومع الشعاع الأول لشمس الصباح، لن يكون في غزة، محتلون، على غير ما تعوّدت أجيالٌ منهم.
آثرت منذ الصباح الباكر، ألا أعتكف في غرفة المكتبة، كالعادة. بل حرصت على الخروج، والاختلاط بالناس، لأرى وأسمع تعليقاتهم وردودهم، على هذا الانسحاب التاريخي، من قِبل عدو كريه وغاشم.
لم ألحظ فرحةً على وجوه الناس، ولا حتى اهتماماً يليق بالمناسبة. فالناس، محتارون، والوضع المستقبلي غامض، وهم قُرصوا من قبل، حين استقبلوا أبناء جلدتهم، بعد أوسلو، فذاقوا ما ذاقوا.
كل مظاهر الفرح الاستعراضية، كانت، فقط، من قبل التنظيمات. وبالأخصّ التنظيمين الكبيريْن. أما المواطن العادي ورجل الشارع، فثمة لامبالاة، تؤطّر مشاعره في هذا اليوم النادر.
لففتُ في الأزقة والطرقات، وأرخيتُ أذني، فلم أجد، في أحسن الأحوال، سوى فرح ملتبس مكسور، وخشية من خيبة قادمة.
قال لي أحدهم: أهمّ شيء أن يتحسّن وضعنا الاقتصادي، وأن نتنفّس بحرية، وأن ينتهي الفساد. أما هوجة رفع الأعلام والشعارات، والصراخ التشجنّجي، فقد ولّى زمنها، ولم تعد تنطلي علينا، أو تُقنع حتى أطفالنا الصغار.
قال آخر: لقد جرّبنا حكم العرب، وعرفنا، خلاله، أنواعاً وضروباً من الفقر المدقع، لم نعرفها أيامَ الاحتلال. فإذا كانوا سيُعيدون نفس القصة، فكلا، وأهلاً بعودة شارون!
سمعتُ أقوالاً أخرى كثيرة، لا تختلف في الجوهر، عن حديث الشيخين.
وبتاتاً لم يأخذني العجب!
فالناس، لُدغت مرات لا مرة، ومن حقها الآن، ألا توغل في الأماني، مع أنها أوَلى البشر قاطبةً، بأن تأمل وتتمنى! فما عانته من الاحتلال العسكري الفاشي، أثناء هذه الحرب الضروس، المسماة " انتفاضة "، شيء لا يخطر على قلب بشر بعيدٍ أو قريب.
ومع هذا، ها هي تستقبل آخر يومٍ في عمر الاحتلال، بما لا يليق أبداً، بجلال مناسبة من هذا النوع.
فمن هو الذي سلب الناس فرحتهم المشروعة؟ ومن هو الذي كسر أرواحهم؟ إنه الفساد، الذي خبروه على جلودهم، عبر عقد زمني ونيّف. فساد حاكميهم من بني جلدتهم، فساد الذين يتعاملون مع الوطن، كحسابٍ في البنك، وكشعارٍ فحسب، ولا يأبهون بفقر الناس ولا بآلام الناس.
كم رجعتُ حزيناً إلى بيتي. فما رأيته [ مع أني أفهمه تماماً ] شيء لا يبعث على الرضى أبداً. بل هو ما تمنته إسرائيل منذ عقود. تمنته إسرائيل، وجاء من يحققون لها الأمنية بالنيابة عنها!
لقد انكسر شيء ما في أعماقي، صباح وظهيرة هذا اليوم! جُرِحَتْ فيّ منطقةٌ حميمة وشخصية. فأنا أمضيت من ال45 عاماً التي عشتها إلى الآن، أكثر من 38 عاماً، تحت الاحتلال. جاء الاحتلال قبل أن أدخل المدرسة، وهاهو يخرج، وقد دخلتُ منحدر الكهولة والمرض: ها هو يخرج، وقد " أوشك الأفق أن يدور "، بتعبير محمود البريكان.
فلمَ لا أفرح من أعماقي؟ ولمَ لا يفرح الناس من أعماقهم؟ لقد صبرنا كما لم يصبر أيوب. وعانينا كما لم تُعانِ سوى القلة في التاريخ. بل لطالما تمنينا وحلمنا بزوال الاحتلال. فلمَ، حين تأتي اللحظة المحلوم بها، أخيراً خِيراً خيراً، لا نفرح؟!
إنني شخصياً، كنتُ أخشى ألا أرى هذا اليوم في حياتي. وكثيرون مثلي يشاركونني هذا الرأي. لكن ها هو الاحتلال يندحر، سواء بقوة إرادتنا، أو لحساباته السياسية، أو بالاثنتيْن معاً، فلماذا يعزّ علينا الآن، حتى مجرد الفرح القليل؟
فرحُ الفقراء والبسطاء والأنقياء من شعبي المعذب؟ فرح هؤلاء الذين دفعوا الثمن كاملاً من لقمة عيشهم ومأوى سكنهم، وقبل هذا وذاك، من فلذات أكبادهم، ومن خيرة أبنائهم وأحبابهم..إلخ.
هؤلاء الذين قدّموا وقدّموا ولم يسألوا يوماً: ماذا سنأخذ؟
كنتُ أتمنى، أن تفرح هذه الغالبية الطيبة من شعبنا الطيب. لكن، ما أراه وأعرفه، ينفي هذه الفرحة، أو يقتل أربعة أخماسها. فيا لها من مفارقةٍ سوداء في يوم ملتبسٍ كهذا!
إنّ من سرق اللقمة من أفواه غالبية شعبنا، مَن حوّلنا إلى فقراء، هو نفسه الذي سرق فرحتنا في مثل هذا اليوم.
فبأية لغة، نخاطب سارقي الفرح هؤلاء، وهم لا يفهمون سوى لغة النهب والسلب؟ آه لو كانت ثمة لغة مشتركة، لكنّا خاطبناهم بها، فمن يدري؟ لعل وعسى يفهموننا ويفهمون علينا في آخر المطاف!