مع أننا كفلسطينيين، أبناء مأساة شهيرة في التاريخ، إلا أن هذا لا يكفي وحده، كي يكون لنا وعي مأسوي، في مقاربتنا لهموم وشجون هذا العالم. لاحظت ذلك مبكراً، سواء في أدبنا الفلسطيني، أو في وعي الناس المباشر. فالمأساة الواقعية، تحتاج إلى ثقافة كونية، ومن مزيجهما يخرج الوعي المأسوي، الجدير بنا والمطلوب منا. فلا إنتاج فكر، وبالبداهة، لا إنتاج أدب، بلا وعي المأساة. بل لا وعي بسيط، في عالم اليوم المعقّد، بلا مسحة من مأساة. أما أن تستقي نظرتك من أيديولوجيا أو دين مثلاً، وتترك لهما أن يحددا مقترباتك كلها، أي تترك لهما أن يدفناك بين شاطئين أو دفتيْن، فهذا أمر لا يليق بمثقف دنيوي معاصر، ولا يؤهله ليقول رأياً أو كلمة جديدة، في عديد القضايا والأزمات التي تعج بها حياتنا المعاصرة. إن عالم اليوم، من التعقيد والفداحة والغرائبية والسوداوية، بحيث لا تنفع معه كلمة تقليدية، وعظية أخلاقية، تخرج من عقل كسول، وأفق محدود، بدين ما أو أيديولوجيا ما. فهو عالم بانورامي درامي أو ميلودرامي، صفته الأولى، هي التراجيدية. ولذا لا بد له من عقل وإحساس يمتحان من هذه الصفة الفارقة، ولا يجوز لهما أن يتجاهلاها بأي حال من الأحوال. فكيف ينتج هذا الوعي المعوّل عليه إذاً ؟ ينتج، بتبسيط يناسب مقالاً صحفياً، من قراءة الفلسفة، بمختلف مدارسها. الفلسفة الغربية تحديداً وتأكيداً، فلا فلسفة عالمية غيرها، تتمتع بحس مأسوي عال ومتوتر مثلها. من سقراط مروراً بهيغل وسبينوزا، وصولاً إلى هابرماس وسواه. عشرات الفلاسفة الكبار، لا يكتمل بناء المثقف، لا تتمّ البنية التحتية للمثقف الحديث، إلا بهم. فإذا أضفنا لهم قبيلة الفنانين الغربيين، من كل الفنون، ومررنا بغيرهم أيضاً، حينها تكتمل عدة المثقف العربي، الفلسطيني بخاصة، ويصلح للقول أو لبعضه. أما ما دون ذلك، كالاكتفاء مثلاً بثقافتنا التراثية، والتمترس حولها، وكأنها أول وآخر الكون، فليس أكثر من خداع للذات وتزييف لوعيها. هذه كلمات لا بد من قولها ونحن نقارب مشكلة المثقف الفلسطيني، وبؤس بضاعته، وفقرها المعرفي والإنساني. فهو، ورغم أنه صاحب مأساة كبيرة كما قلنا، إلا أنه لا يجيد عرضها والدفاع عنها، بلغة عالمية تُفهم من قبل العالم الخارجي غير العربي، وتصل إليه دون مشقة. فهو لا يقرأ كما يتوجب على مثقف أن يفعل. ولا يحسّ كما يتوجب على فنان أن يفعل. فعالمه محدود صغير، عالم بين الدفتيْن فقط. والدفتان لا تصنعان فناً ولا فكراً لأنهما مجرد قفص أو أقفاص. ووعي القفص لا يعوّل عليه في الفن. فالفن براح البشرية، ومتنفسها الطليق. بل هو هروب روحها المعذبة من الأقفاص إلى مطلق الحرية، وإلا لماذا هو فن ! إن فضيلة الثقافة الغربية، على اختلاف مناشطها، أنها كونية وإنسانية في الجوهر منها. ولذلك فهي تهذبّ وتشذّب روح الفنان والمثقف العربي المطّلع عليها. وتؤهله، لكي يكون موجوداً وحاضراً في العالم. ليس معنى هذا أن يتخلى عن خصوصيته التاريخية والجغرافية، فهذه تتسع بمقدار ما ينفتح حاملها على الثقافات الأخرى، وتنغلق بمقدار ما ينغلق هو، ويكتفي بما لديه. وللتدليل على هذا الكلام الذي لا يحتاج إلى تدليل، نسوق إشكالية الفنان الفلسطيني مع فن الموسيقى، تمثيلاً لا حصراً. فهو لا يعرف غير موسيقى المنطقة العربية المحيطة به. وهي بالإجمال موسيقى بدائية حسية مباشرة، لا تهذّب ذوقاً ولا ترهفه، إلا في القليل النادر. فكيف لمثقف عصري، أن يكتفي بهذا القدر البسيط، الذي لا يشفي غليل وأشواق الروح السامية، ولا يمتح من الموسيقى الغربية، بكبار مؤلفيها ؟ كيف لمثقف يعيش لحظتنا الحاضرة، ألا يعرف بيتهوفن وموزارت وباخ وفاغنر وعشرات سواهم ممن جاءوا بعدهم، أن يسمّي نفسه مثقفاً : أي فاعلاً يعرف ويحسّ بالعالم من حوله. فلا مثقف بالمعرفة فقط. بل بالمعرفة والإحساس _ وهذا ما يميّز المثقف عن المتعلّم. المعرفة بأنك جزء من العالم، والإحساس بأن هذا العالم هو بيتك الشخصي، حتى لو كنت واقعياً، تعيش بلا سقف بيت ! إن المثقف الحديث، متورط في هذا العالم المدنس، وله الشرف في ذلك. ولا بد من ورطته هذه وإلا فقد صفته كمثقف ! فقد مضى زمن التقوقع والعزلة النفسية. ومضى زمن الاكتفاء بعزاءات المقدس. فلا عزاءات ثمة ولا ما يحزنون. بل هو العيش في قلب هموم العالم، حتى لو كنت تعيش في الأطراف المهملة. فالأطراف المهملة هي محض صدفة جغرافية لا أبعد ولا أكثر. ولكي تكون مثقفاً كونياً، عليك بالعيش في القلب. ذلك أن كل هذا العالم الكبير الظالم، هو بيتك المعنوي، إن لم تستطع جعله بيتك المادي. بمثل هذا الوعي وهذه الروحية، تتشكّل لبنات المثقف الحديث. ويتنفس من رئتين ثقافيتين صحيتين. وكل هذا مفقود للأسف عندنا ولدينا. ثمة استثناءات سعيدة بالطبع، ولكنها الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها. جرياً على غرار أن لكل قاعدة استثناء. ونحن نأمل، مجرد أمل، بزيادة عدد هذه الاستثناءات، فهي من ستمثّلنا في العالم. وهي من ستوفر لنا حضوراً لا بأس به في العالم أيضاً. ولعل من حسن حظنا الكبير، أننا موجودون اليوم في زمن ثورات الميديا، التي صارت عابرة للقارات والجنسيات. عالم الشبكة العنكبوتية، التي لو أحسن المثقف العربي والفلسطيني استخدامها، لنال من ورائها الفائدة الكثيرة والكبيرة. فالعولمة، تتجسّد أكثر ما تتجسد الآن في الأنترنت. والأنترنت، كسر كل حدود الجغرافيا الأرضية، بل وتجاوز ذلك، إلى مفهوم الزمن ذاته، فكسره. فزمن الأنترنت الآن غير أية أزمان ماضية. زمن مضغوط سريع لاهث، يوصلك إلى أي موضوع أو منطقة، في رمشة عين ولا رمشة عين الملك سليمان، في قصته الخرافية مع بلقيس ملكة سبأ. ذلك أن الأنترنت، هو التجسيد الألكتروني الواقعي لرمشة العين الأسطورية تلك. فأي حظ وِهبنا ونحن لا ندري، بفضل عبقريات المخيلة الغربية ! أقول قولي على هذا النحو التبسيطي، لأننا مقبلون على العيش بكثافة في زمن الأصوليات المغلقة. الأصوليات التي حتماً ستفرز مثقفيها بين مزدوجين، وستملأ بهم وبغثائهم كل الفراغات والمساحات الفارغة. الأمر الذي يهدد كل مكتسبات المثقف الفلسطيني، عبر قرن من الزمان. والأمر الذي يهدد فعلياً، بانحسار الثقافة الديموقراطية، بتياريها اليساري والليبرالي. فلدينا الآن مثقفو هذه الأصوليات، بوعيهم الماضوي، وبوهم كمالهم التاريخي، وبفكرهم الذي لا يتسع لقيمة الاختلاف وحقوق الأقليات. إنهم مثقفون يرون أن [ الأوائل ] لم يتركوا [ للأواخر ]، الذين هم نحن سكان هذه اللحظة التاريخية، من شيء. أصحاب ثقافة الاتباع لا الابتداع والإبداع. وهنا يكمن خطرهم، فهم لن يرتاحوا، إلا إذا تعطلَ العقل، وشاع النقل. أي أنهم سوف يعيدوننا قروناً إلى الوراء. وكأننا ناقصون quot; وراءً quot;، وكأننا لم نعش منذ خمسة قرون على الأقل في quot; الوراء quot; ! إن المنطقة العربية كلها مهددة بوباء الأصوليات الطالعة. وهذه تنجز نجاحات كل يوم، على المستوى الشعبي. ونخشى لو مُدّ لها الحبل، أن تأتي على الأخضر واليابس، وأن تصل إلى شريحة المثقفين أنفسهم. فتنتصر عليهم، سواء بالترهيب أو الترغيب. على الأقل، مَن لم تستطع تطويعه وجعله يمشي في ركابها، تجبره على الصمت والاعتكاف. ذلك أنها ليست شريحة محصنة في الأصل. فهي فقيرة ثقافياً، وغير مبنية على أسس متينة، توفر لها الحصانة الذاتية الداخلية، مهما قست الظروف.
إن إشكالية المثقف الفلسطيني في الداخل، تفوق إشكالية نظيره في الخارج. فمثقف الخارج، الشتات والمنفى، جال ورأى، وتنقل بين البلدان والثقافات. فكان محظوظاً نوعاً ما، بأن خرج من قدَر القوقعة. أما مثقف الداخل، الذي وصل إلى سن الأربعين أو الخمسين، دون أن يخرج من حارته أو مدينته، ودون أن يمتلك لغة أجنبية يقرأ من خلالها، فهو في الغالب مثقف كسول، محدود الرؤى، جبان فكرياً، مكتف بما لديه، ولا توجد لديه طموحات عليا. ذلك أن هذه الطموحات تكلفه الكثير، وهو غير قادر ولا مستعد للخوض في تكلفتها الباهظة. سواء على الصعيد النفسي أم المادي أم الاجتماعي. لأنه مثقف فقير مادياً بالأساس، وفقير روحياً بالنتيجة. إنه مثقف القوقعة. والقوقعة لا تنتج مثقفين كباراً، بل تنتج مثقفين على قدر مساحتها وفضائها إن كان لها من مساحة وفضاء. إنها مشكلة كبيرة إذاً. عانينا منها ولم نزل. ولا ينفع معها القول بأن ثمة استثناءات عظيمة في هذا المجال، استثناءات تصلح لتكون قدوة ونموذجاً، كالإشارة مثلاً، إلى تجربة القاص العراقي العظيم محمد خضيّر. مواطن البصرة الأبدي. فمحمد في الأصل، فنان كبير بروح طموحة، وبنار في الأعماق مقدسة : نار الفن والإبداع. لذا استطاع، بدأب جليل وبجهد خارق، أن يتجاوز ظروفه المعيشية الخانقة، وإكراهات الظرف السياسي الكئيب، واشتغل على موهبته الكبرى، فأعطى كما لم يعط غيره، من الفنانين الجوّالين المتنعمّين. لماذا ؟ أولاً لأنه يمتلك موهبة استثنائية كبرى. ثانياً، لأنه أخلص لفنه كما لم يخلص لأي شيء آخر. وتلك صفتان غير متوفرتين في غالبية كتابنا موضوع هذا المقال. لذا، فهم كتاب محليّون، من الدرجة الثانية أو الثالثة، وعلى الأرجح، سوف يظلون هكذا، محليين، أسرى ظروفهم وضحاياها، وأسرى مواهبهم الصغيرة، دون أن يظفروا بشرف تمثيل الفضاء العام للثقافة الفلسطينية. فهذه الثقافة، لن يظفر بتمثيلها سوى من يتمتع بوعي فردي مأسوي، وبحس عال بالدراما الإنسانية عموماً، والفلسطينية منها بشكل خاص. وبالأخص في حقبتنا هذه وفي مدى المستقبل المفتوح. فما عاد الفن ولا عادت الثقافة بالإجمال، تتسع لأصوات القطيع، وترضى بهدهدتهم. فهي، منذ الآن، لن تكون إلا لمن يمتلك فرديته وخصوصيته الأصيلتان، بعيداً عن دوغما الجماعة، ودوغما اليقينيات، إذ لا جماعة في الفن إلا عبر الفرد، ولا يقينيات عند المثقف الدنيوي بالمطلق. ولعل أفضل الطرق للوصول إلى هذا المعنى الإنساني من الثقافة، هو أن يكون quot; المثقف quot;، بالفطرة أو بالقصد، أو بكليهما معاً، فاوستيّاً ( من فاوست )، فاوستياً يبيع نفسه للشيطان، في سبيل معرفة معنى الحياة والكون، إذ لا معرفة خارج الحياة والكون، وما من معرفة، تنفعنا وجديرة ببحثنا الدائب، سوى هذه المعرفة.