ضجِرَ العالمُ من ضحيته المزمنة، ومن خطابها الذي صار كلاسيكياً. أما نحن الضحايا، فقد أصابنا أيضاً نصيب كبير من الضجَر. الضجر من كوننا ضحايا، والضجر من كون خطابنا، لا يتغيّر. فالقسم الأكبر منا، يتمنى لو تنتهي هذه المأساة، فنعود لنحيا حياة طبيعية، مثل كل الشعوب من حولنا. 58 عاماً تمرّ اليومَ على ذكرى النكبة. أستيقظُ في الصباح، فلا أذهب إلى وظيفتي، بل أجلس في البيت، آخذاً هذا اليوم إجازة. إجازة من العمل، وإجازة من الحركة، وإجازة، ربما، من الحياة ذاتها. إنها تقاليدي مع يوم الذكرى الكئيب. لا أفعل شيئاً، سوى التحديق في سقف الغرفة المظلمة، وسماع الموسيقى، وأحياناً، في أفضل الأحوال، كتابة بضعة سطور : تهويمات أو هواجس أو ما شابه. فليس لدي من جديد، أكتبه وأقدمه إلى الناس. يوم عادي في ذكرى صارت عادية تماماً. غيري يذهب إلى الفعاليات الجماهيرية، أو الندوات، أو منصات الخطابة. غيري يصرخ لن ننسى ويرفع شعار quot; كي لا ننسى quot;. لكنني، أنا، لست بحاجة إلى مثل هذا الشعار الطيب والأبله. إنني فقط، وفي كل ذكرى سنوية، بحاجة إلى أكبر قدر من الوقت، للاختلاء بنفسي، وتأمل مصائر الضحايا، وهم، يشيخون، ويترك عليهم الزمنُ علامات مروره التي لا تُدحض. أمي الآن، على مشارف الثمانين. أما أبي، فمات في حدود الخمسين، وهو مصرّ على أن يوم عودته، أقرب إليه من حبل الوريد. أمي، كانت، وقت أن كان لها من الحيوية الجسدية والنفسية، ما يؤهلها لحديث الذكريات، تحدثنا باستفاضة، وفي هذا اليوم بالأخص، عن حياتها في القرية، وعن أدق تفاصيل تلك الحياة الجمعية والفردية. أما الآن، فيمرّ يومُ الذكرى، هادئاً، عادياً، ممسوح الملامح، مثل أيام الله الأخرى. الأبناء، الذين هم نحن، كانوا يدفعونها للحديث، وكلما تحدثت، زاد فضولهم، وطلبوا المزيد. أما الأحفاد، الذين هم أبناؤنا، فما عادوا يهتمّون أصلاً. فقط، وأحياناً، يسألون بعض الأسئلة المدرسية، عن مكان القرية، موطنهم الأصلي، وأسلوب الحياة فيها، ثم تأخذهم الدنيا إلى مشاغلها العديدة، ويأخذهم سنّهم إلى اهتماماته الخاصة. 58 عاماً تمرّ اليوم. والبيت، مثل غالبية بيوت الفلسطينيين، ينتظر الراتب منذ شهرين ونصف الشهر. الزوجة مكتئبة، فعليها تقع مسئولية تدبير أمور البيت. بينما أنا، الهارب الأبدي من كل المسئوليات، أدلفُ إلى غرفة المكتبة، محتمياً بمرأى أرفف الكتب، وفاتحاً المذياع على برنامج عبري، يذيع الموسيقى الغربية على مدار الأربع والعشرين ساعة. إنه يبثّ الآن، بعض السمفونيات الأخيرة، لهايدن. هايدن مؤلّفي الموسيقي المفضل، والذي تعلّمت حبه وعرفت أهميته المائزة، من مقالة ميخائيل فارشافسكي، عن يسرائيل شاحاك. إنها إذاً، مصادفة سعيدة في يوم سيئ! الزوجة تتعذّب، وأنا أستمع وأستمتع بشهية إلى هايدن! ولمَ لا؟ أهو فقر وقلّة كيف! فلأستمع، فلأستمع إلى هايدن الملائكي، هايدن : صدى الإله. ولتفكّر الزوجة المخلصة ما شاء لها التفكير، فالمصيبة عامة، وهي على الأرجح، ستنكّد على نفسها، بتفكيرها الطويل، دون طائل. لقد عجزَ، من قبلها، عمرو موسى، وأبو مازن وهنية، عن إيجاد حلّ. وفقط الأوروبيون، هم المعوّل عليهم، في تدبير مخرج، بصفتهم الأقرب إلى العقلانية الإنسانية، من غيرهم، في هذا العالم. إنها الحياة أيها الأعزاء، لا تنقصها المنغّصات في الغالب. ومع هذا، لا بد أن نعيشها، حتى آخر نبضة قلب في الصدر. هايدن يحلّق، يتألّق. وثمة هتافات بعيدة تقترب، فأسمع رجع صداها. لا ريب أنها مسيرة جماهيرية، تجوب الشوارع، إحياءً لهذه الذكرى. فالفلسطينيون، ومن جميع الأجيال، لا يتمتعون بروح ابتكارية، تقدّم مقتربات جديدة لذكرى تهجيرهم وترحيلهم، وسرقة وطن منهم. كل سنة، يكتفون بالخطابة، وبالمسيرات والاجتماعات الحافلة، وبالحناجر الجعورية، ثم ينتهي اليوم، ويعود كلّ إلى بيته، ليواجه مشاكله، وحيداً، دون سند. إنهم، إلى اليوم، لم يقيموا متحفاً مركزياً للنكبة، مثلاً. متحفاً للذاكرة، على سبيل المثال. تكلموا طويلاً عن هذا الأمر، ولم ينفذوا كلامهم إلى هذه اللحظة. ذلك أن ثقافتهم الجمعية، لا تحبّذ هذا النوع quot; الحديث quot; من (التذكّر). فهم، بثقافتهم الشفهية، يكتفون بأنماط التذكّر الشفهي، ويكتفون بأن أحداث المأساة وتفاصيلها، ما زالت طرية في ذاكراتهم. ناسين أو متناسين، أن الأجيال، تموت. وأن (اختلاف النهار والليل يُنسي) كما قال الشاعر الأمير.
ذكرى كئيبة هي ولا شك. وبالأخص في هذه السنة. فالعام عام جوع، أو يقترب من هذا التوصيف. والأوضاع في تدهور مستمر. كل شيء يتغيّر من حولنا إلا خطابنا. ما زال إنشائياً بلاغياً، وما زال غير أمين في إنصاته لوقع خطى المأساة. أحزاب سياسية أدركتها الشيخوخة. ووجوه مللنا منها ولم تملّ من نفسها بعد. فكأنما نحن ورْثة أبيها أو خالها. وكأنما قدرنا أن تظل هي كاتمة على أنفاسنا إلى الأبد. شعب، أكثر من 60 % من أفراده، شباب أو في سن الشباب. ومع ذلك، فقادته وسياسيّوه، عجائز أو كهول. وحتى لو قُيّضَ له قادة من الشباب، فهم شباب بعقول العجائز والكهول. شباب يراوحون في نفس الأمكنة والأزمنة القديمة. شباب تجاوزهم عصرهم. فما كان منهم إلا مزيد من الارتداد إلى ثقافة الماضي السكونية، والاعتصام بها، كأنما هي ملجأ أو ملاذ أو ملاك حارس. نوع من النكوص المرضي، به، بإذن واحد أحد، سننتصر وسنحصّل حقوقنا. فقط على الشعب الصابر أن ينتظر. والشعب، كما هي عادته منذ 58 عاماً، ينتظر وسينتظر، فالانتظار هو مهنته الوحيدة، مهنة صارت فلسطينية بامتياز! لذا فلا جديد لديه ولا لدى قادته الجدد : يطلبون منه الانتظار، لكنهم ينسون تنبيهه، حتى لا يقع في الأوهام، بأن انتظاره هو من نوع : انتظار ما لا يأتي! فهل ترون كم صرنا نحن الفلسطينيين، بيكيتيين (من صامويل بيكيت) بمرتبة الشرف! آه لكَم نشبهك يا سيدي يا بيكيت! هل تذكرُ؟ في الثالث والعشرين من تشرين الأول عام 1969، قررت الأكاديمية السويدية، أن تمنحك جائزة نوبل في الآداب. ولقد رأى البعض فضيحةً في هذا الاختيار، فقال مؤرخ كبير، تعقيباً على فوزك (هنالك من هو أولى بهذا الاختيار... إذ أن بيكيت قد ارتضى، في نهاية المطاف، أن يصيغ اللاشيء في كلمات، وأن يبني عملاً يتكرر إلى ما لا نهاية). فهل نحن أيضاً، وجرياً على سنن العادة المذمومة منذ 58 عاماً، سنظلّ نصيغ اللاشيء في خطابنا السياسي، دون أن نهتمّ، ولو مرة واحدة، بتدبير حلّ واقعي، لهذا الشعب المُبتلى وكأنما إلى ما لا نهاية؟ لقد مللنا وضجرنا من أنفسنا، ربما، قبل أن يملّ ويضجر منا العالم. واليوم، نحن مطالبون، أكثر من أي وقت مضى، بإنقاذ ما يمكن إنقاذه. إن الضفة الغربية، تنسرب من تحت أقدامنا، كما تنسرب حبات الرمل. ولا منجى، لو كان ثمة منجى، إلا بتوحيد خطابنا السياسي الموجّه للعالم. خطاب الاعتدال والواقعية. خطاب من يعنيهم العنب، لا مقاتلة الناطور. خطاب لا انفصام فيه، ولا هو بوجهيْن. خطاب واضح وسافر سفور الشمس. نتوجه به لجماهير شعبنا أولاً، وللعالم الكبير من بعد. فهذه الجماهير البائسة المغيّبة الوعي، تعودت على قادة، يضحكون على وعيها البسيط، فيستثيرون فيه أسوأ المناطق، وهي منطقة الثأر والانتقام. وبدل أن يصارحوه بالحقائق الكبرى، يزيدون في تضليله، ويعيدونه إلى المربع الأول. ليصل الجميع، من بعد ومن قبل، إلى الكارثة الكاملة. إن مشكلة الشعب الفلسطيني الأولى، هو أنه يفتقر إلى قادة تاريخيين، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. فكل قادته، وعلى مدار قرن من الزمان، كانت تعنيهم كراسيّهم، لا قضية شعبهم. البقاء في الكرسي إلى أكبر مدى، ولو على جثث شعبهم وتضحياته الجمة. ولقد آن الأوان لكل هذه القصة الحقيرة أن تنتهي. فما عاد في الجسم أماكن لنصالٍ تتكسّر على النصال. وما عاد للروح أن توغل في عماء أضاليلها أكثر مما فعلت. نحن أصحاب حق، وعلينا أن ندير مرافعاتنا عن هذا الحق، بلغة مفهومة من لدن العالم الفاعل. لغة متحضرة سلمية، مهما عتى عدونا التاريخي. ولو كان شعبنا، اختار طريق المقاومة السلمية، مبدأ اللاعنف، نهج طيب الذكر غاندي، منذ بدء مأساته النازفة، فربما ما كنا سنصل إلى هذا المصير الكابي. لكننا، اخترنا طريق عسكرة الانتفاضة، وطريق الكفاح المسلح، فكانت الطامة الكبرى، وكان أن دفع شعبنا فوق ما يحتمل. وكل ذلك بفضل قيادات رديئة، لا يعنيها ألم الإنسان، وفقط يعنيها الكرسي، ولذة الجلوس عليه. لذة السلطة، التي هي، كما يقال، أقوى وأعتى اللذّات البشرية قاطبةً!
إنني في هذا اليوم الكئيب، وفي الذكرى ال 58 ليوم النكبة، أخشى، لو ظل العقل السياسي الفلسطيني، على ما هو عليه، من قصر نظر، ومن عماء أحياناً، أن يحتفل أحفاد أحفاد أحفادي، بالذكرى ال 200 لنكبة شعبي، فيكون حالنا مثل حال عمنا بيكيت وهو (يصيغ اللاشيء في كلمات، و.... يبني عملاً يتكرر إلى ما لا نهاية)!