لدينا في فلسطين نظام حكم رئاسي برلماني. ومع اعتراضنا المبدئي على هذا النظام، فإنه موجود، ولا مفرّ من القبول به، ولو إلى حين، إلى أن يتغيّر باتفاق الفلسطينيين جميعاً، فيكون نظامنا السياسي، إما برلمانياً مثل إسرائيل، أو رئاسياً مثل أمريكا. ذلك أن الجمع بين المسألتين في حالتنا، تمخّض عن إشكالات ومآزق وأزمات، نحن في غنى عنها، أكثر من أي شعب آخر يعيش على سطح هذا الكوكب. فمعظم أو كل ما نعاني منه في ساحتنا الداخلية، نتجَ عن وجود هذا النظام، الذي أوصلنا إلى تكريس نظام حكم برأسين، كل رأس منهما لها برنامجها السياسي، المختلف جذرياً عن برنامج الرأس الأخرى. ومع ذلك، وإلى ذلك، فإن الكثيرين من لاعبي السياسة لدينا، وفي نشوة انتصارهم واعتلائهم سدة الحكومة، يشككون في صلاحيات الرئيس، وفي مدى ما يستطيع فعله، وهو على سدة الرئاسة. تحت حجة أن الرئيس من فتح، وأن فتح خسرت في الانتخابات، وعليه، بناء على ذلك، أن يعطي دفة السفينة لمن كسبوا الانتخابات، وأن يكتفي بالشيء القليل من التدخل في شؤون الوطن والمواطن، وبالشيء الكثير، في المقابل، من المراسيم والمظاهر البروتوكولية! ناسين هؤلاء الكثيرون، أن لدى الرئيس، ووفق الدستور والنظام القانوني، من الصلاحيات، أكثر بكثير مما تذهب إليه ظنونهم وأفكارهم. فالرئيس، هو جامع الفلسطينيين، وحافظ مصالحهم العليا، وبيده أن يحلّ أية حكومة، سواء كانت من فتح أم من حماس، وفوق ذلك، لديه صلاحية أن يدعو إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، في أي وقت يصل خلاله إلى قناعة، بأن الوضع الداخلي والخارجي يستوجب ضرورة مثل هذه الانتخابات. فذلك هو حقه الدستوري، ولا أحد من ذوي العقول وممن يعرفون القوانين، يمكن أن يماري في هذه الحقيقة. ولعلّ ما ساعد على شيوع هذا الرأي، لدى قطاع سياسي كبير وعريض من النخبة والجمهور معاً، هو أبو مازن ذاته، وبدون قصد على الأغلب. فالرئيس، ونظراً لدقة وحراجة المرحلة التي نعيشها، آثر سياسة الإقناع، واستبعد المواجهة، حفاظاً على مكونات شعبنا، وعلى سلامة نسيجنا الاجتماعي، أولاً، وربما قبل نسيجنا السياسي. ونحن نتفهّمه في مسعاه النبيل هذا، ونثمّن بُعد نظره، حفاظاً على المصالح العليا لوطننا وشعبنا. فلقد كان بإمكان رئيس غيره من فتح، أن يقلب الطاولة، وأن يزجّ الجميع في مهاوي التهلكة. لكن أبو مازن، رجل السلام الحقيقي، والرجل المتحضّر طبيعةً لا تطبّعاَ، ورجل العقلانية الحقيقي، نأى بنفسه عن تأثيرات فتح وضغوطاتها عليه، وتصرّف كرئيس لكل الفلسطينيين. جالباً بذلك، غضبَ وحنق بل وكراهية قطاع عريض من تنظيم فتح عليه! وإني لأسمع وأعرف مئات القصص والحكايات، التي يطلقها قادةٌ شباب وكهول من فتح، على الرئيس، متمنّين لو يزول بأقصى سرعة، تاركاً الساحة لهم، يصولون في دروبها ومنحنياتها ويجولون، كيفما شاء لهم وعيهم العصبوي والفئوي، الذي لا يهمّه فلسطين ولا مصالح هذا الوطن الصغير المنكوب! إن أبو مازن، ويا للمفارقة السوداء، مغضوبٌ عليه من فتح وحماس وإسرائيل وأمريكا معاً وجميعاً وفي خلطة واحدة! ومع ذلك، فلنعُد إلى موضوعنا، وهو ضرورة إجراء الاستفتاء الشعبي، في حال تعذّر الاتفاق والإجماع بين الفصائل، وبالأخص بين فتح وحماس. فحين أطلق أبو مازن دعوته الجريئة تلك، اعتبرها عديدُ المحللين والمتابعين السياسيين، بمثابة قنبلة سياسية حقيقية، أظهرت أبو مازن، رجل الحوار والإقناع أولاً وأخيراً، بمظهر جديد لم يتعوّد عليه الفلسطينيون من قبل. حيث تحدث الرجل، في أول جلسة للحوار الوطني، حديث القلب للقلب مع شعبه، وحديث العارف بما يُحاك حول وطنه من تحديات ومؤامرات، مازجاً كل ذلك بغير قليل من quot; الحزم السياسي quot;، فهو الآن رجل فلسطين لا فتح. ورجل دولة لا مجرد لاعب سياسي. بل رجل فوق حسابات جميع التنظيمات، فالوطن في أزمة مستعصية، والوطن فوق الجميع. طبعاً، لم تعجب هذه الدعوةُ المفاجئة حماساً، ولم ترض ولن ترضى عنها حماس. لكن هذا شأن آخر وقصة أخرى. فحماس مثل بعض الفتحاويين أيضاً، لا تريد إجراء الاستفتاء، لأكثر من حسبة ولأكثر من غاية في نفس يعقوب. وإني لعلى يقين، بأن معظم الفلسطينيين العاديين، والكثير من نخبتنا الثقافية والاجتماعية بالأخص، مع إجراء الاستفتاء، ومع الشروع في التحضير لآلياته منذ اللحظة. فقد تعبَ معظمنا، وأيقن معظمنا كذلك، بأن [ آخر الدواء كيُّ الاستفتاء ]! ذلك أن تنظيميْنا الكبيرين، وعلى نحو خاص حركة حماس، تخشى من نتائج الاستفتاء، وبالذات، بعد مرور شهور على تشكيلها للحكومة، وتأخير صرف الرواتب، والعجز عن إبداع أية حلول ولو صغيرة لأزمتها الطاحنة في الحُكم. لذلك، كنتُ من المستاءين، من تمديد فترة العشرة أيام، من قٍبل الرئيس، رغم معرفتي بحسن نواياه وبُعد نظره. خوفاً من أن تميع المسألة، وأن يتلكأ الآخرون في بظّ الدّمل، وتفريغه من صديد التناقضات، سعياً إلى مكسب صغير هنا، أو تحقيق هدف أصغر هناك، ووجهة نظري في ذلك، أن حالنا لا يحتمل التأجيل، وأن وضعنا السياسي والاجتماعي في مأزق كبير بل أكبر مما عرفناه سابقاً من مآزق. فإما أن نتفق في حوارنا الداخلي، على القواسم المشتركة والحدود الدنيا في الأقلّ، وإما فلنعد إلى الشعب، بما هو مصدر جميع السلطات، وصاحب الكلمة العليا في تقرير مصيره داخلياً وخارجياً. ذلك أننا، ولو تركنا للتنظيمين الأكبرين، أن يديرا أمورنا، فعلى الأرجح لن نصل إلى شيء ذي بال. فهما، كلاهما، أثبت قصر نظره، وأثبت عدم جدارته في قيادة شعب تتناهبه أعتى العواصف في تاريخ الدول الحديث. فنحن لا نملك ترف تمديد الوقت إلى سقف لا يعلمه أحد. بل لا نملك من الأصل أي ترف في تعاملنا مع الزمن ومتغيّرات العالم من حولنا. لذا نرجو من الرئيس ألا يمدد الوقت مرة ثالثة، وأن يمضي إلى تنفيذ دعوته عملياً، بعد نهاية فترة التمديد وهي عشرة أيام، فمدة عشرين يوماً، كما نرى، كافية. والتعويل على فترات أخرى، تعويل لا طائل من خلفه. فالكل يعرف أنه لو خلُصت النوايا، فإن الفلسطينيين سيتفقون في يومين لا عشرين يوماً. فلماذا التلكؤ ولماذا التأخير إذاً ؟ ولمصلحة مَن غير عدونا التاريخي ؟ لقد هرب الناس إلى حماس قرفاً من فساد وتحلل فتح : قرفاً من الاستبداد والتفرد في الحكم، قرفاً من الفساد المالي والإداري. ولم يأتوا إلى حماس، لأنها سترفض المفاوضات مع إسرائيل. فغالبية شعبنا مع الحل السياسي والمفاوضات. لأن غالبية شعبنا تعرف بأن لا حل عسكرياً لمأساته. وأبو مازن ههنا هو رجل غالبية الشعب الفلسطيني. رجل انتخبه شعبه، ووفق برنامجه السياسي، بنسبة أكبر من نسبة فوز حماس. لذا فالقول بأن شعبنا مع برنامج حماس الانتخابي المُقاوم، والرافض للاعتراف بإسرائيل وبالشرعية الدولية، هو قول غير صحيح البتة. فمعظم الذين انتخبوا حماس، انتخبوها من أجل الإصلاح والتغيير الداخلييْن، ولم ينتخبوها على برنامجها السياسي. وحماس تعرف ذلك وتعيه جيداً، ولهذا تناور راغبة في عدم إجراء الاستفتاء، خوفاً من النتائج بالطبع. إن على أبو مازن، أن يكمل حزم دعوته بحزم تنفيذها سريعاً. وليس أمامه من خيار آخر، في حال عدم اتفاق الفصائل. فالبديل كما يعرف الرئيس ونعرف نحن الفلسطينيين بأغلبيتنا الصامتة، هو الحرب الأهلية، وانسداد الأفق، والتجويع والحصار بلا أجل مسمى. حتى ليبدو أننا قادمون على [ نكبة ] جديدة، بعد 58 عاماً من النكبة الأم القديمة! فما محاولة تعويق وإلغاء الاستفتاء، إلا محاولة استفراد وتفرّد في الحكم. والشعب الفلسطيني لا يقبل بذلك، ولن يسمح به، فنحن لم نهرب من تفرّد واستفراد فتح، لكي نقع في الحفرة عينها، ولكي نقع في ديكتاتورية حماس! إن الحل الوحيد أمام حماس هو أن تنتصر على نفسها، وعلى أطروحاتها وخطابها السياسي الكارثي، فتكون بذلك منتصرة بانتصار المصالح العليا لعموم الشعب الفلسطيني، لا منتصرة بوجهة نظر مؤيديها ومحازبيها فقط. فهؤلاء يرون إلى الدنيا من خلال ثقب الباب، ومن خلال القالب. ولقد أثبت التاريخ الكوني، بمجمله، أن من ينظرون من ثقوب الأبواب وشقوق القوالب والأقفاص، غالباً بل دائماً يفشلون ويكلفون شعوبهم أفدح الثمن. لذا نرجو من أبو مازن الثبات على دعوته، والإصرار على الاستفتاء الشعبي بعد أربعين يوماً، حتى لو غضبت قطاعات في فتح، وحتى لو غضبت كل حماس. فالمصالح العليا لشعبنا مهددة في الصميم، كما لم تكن من قبل. وإيهود أولمرت يعرض خططه علناً وعلى الملأ. فيما نحن نعرض عضلاتنا البلاغية، وعجزنا التام، عن تدبير أي حلول. والوقتُ، كما هو شأنه دائماً، ليس في صالح الضحية المتفرّقة، بل في صالح الجلاد المقتدر والمتحد. نقول ذلك، والألم التاريخي يعصرنا، ونقول ذلك، ونحن نعرف أنّ البعض منا لا يريدها شراكةً في تحمّل أعباء المصير التراجيدي لوطن وشعب، بل يريد وطناً وشعباً بمبنى ومعنى المزرعة : وطناً وشعباً على مقاس حذائه الأيديولوجي. إلى درجة وصلنا معها إلى أن نكون، ليس فقط ضحايا quot; الفيتو الأمريكي quot; بل أيضاً ضحايا quot; الفيتو الأصولي quot; الفلسطيني والعربي والإسلامي!
يقول ماركس إن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة أو مهزلة. وأظنّ أن نصيبنا من الكلمة الأخيرة، مع هؤلاء الذين يتقنون فنّ الهروب إلى الأمام، أكثر بكثير من الكلمة الأولى. لقد شبع الشعب الفلسطيني من المأساة، ولقد حان الوقت، على ما يبدو، ورغبةً في كسر ملل الروتين، لكي يشبع من المهزلة!
بخاطركم.