قام الروائي الألماني باتريك بكتابة روايته الروعة quot;العطرquot;، ليدخل هذه الحاسة في ممرات التألق، ودهاليز الإبداع، ولكن ألم يكن لهذه الحاسة quot;الشمquot; سوابق، ومرافق، ومقدمات!!!؟ خذ مثلاً هذا النص النبوي، الذي رواه أحمد في مسنده، والنسائي، ووصُف بأنه quot;حديث حسنquot; يقول الحديث: (أيّما امرأة استعطرتْ، ثم خرجتْ، فمرّت على قومٍ ليجدوا ريحها فهي زانية، وكلُّ عين زانية)! من هنا تبدو الرائحة متوغلة في السياق الاجتماعي، ولها حضورها الذي يشكل ثقافة تشبه ثقافة السمع، أو عطاء الكلام! يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه (الحجاب) تحت عنوان quot;فتنة الطَّيبquot;!
(والطِّيب.. رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى، وهو ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، مما تتهاون به النظم الأخلاقية العامة، ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس ألاّ يهمل حتى هذا العامل اللطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمر بالطرق أو تغشى المجالس متعطّرة، لأنها وإن استتر جمالُها وزينُتها، ينتشر عطُرها في الجو ويحّرك العواطف) ص 319.
ويوغل بعض الإسلاميين في شرح هذه quot;الجريمة العطريةquot; من خلال الاستشهاد بقصة وردت في كتاب quot;نساء مفترساتquot; الذي أصدرته دار quot;الهلالquot; تبدأ القصة بسؤال مفاده: (هل تعرفون السر الكامن وراء تجمع الكلاب حول كلبة تريد الوصول)؟ يقول الروائي إن هذا السؤال جذب أحد العلماء، لأن اعتقاداً سائداً مفاده أن أنثى الكلاب- الراغبة في الزواج- تطلق رائحة أنثوية تجذب إليها الذكور من مسافات بعيدة، ولا يمكن لكلب أن يفكر في الجنس إلا إذا استقبل هذه الرائحة المثيرة... وعند ذاك تثور غريزته، ويبحث عن الأنثى التي أطلقتها!!!
ويضيف الراوي أن هذا العالم استخلص هذه المادة quot;العطرية المثيرةquot;، التي تثير ذكور الكلاب، وأخذ يحللها في معمله، الأمر الذي جعلها تلتصق بثيابه، وتلطخ أثماله، وحين خرج من معمله متوجهاً إلى منزله سيراً على الأقدام، لحقت به الكلاب على شكل مظاهرة كلبية صامته وثائرة، فدهش الناس في ذلك، ولم يعرفوا السبب... إن رائحة الكلبة لا تفوح إلا إذا إجتاحتها الرغبة إلى الجنس، وكأنما هي بهذا تبعث ببطاقة دعوة سرية يحملها الهواء إلى كل الكلاب في المنطقة- والشاهد هنا- يضيف الراوي- أن الكلاب لا تفكر في الجنس إلا إذا استقبلت هذه الرائحة، أو الرسالة الكيميائية الفطرية...، لتنتقل هذه quot;الإشارةquot; إلى الأنف، ومنها إلى أعصاب الشم، ومن الأعصاب إلى المخ، ومن المخ إلى الغدد الجنسية، فتشتعل، ويشتعل صاحبها جنسياً، وتتجمع الكلاب وتقوم بينها معارك طاحنة!!!
إن الحبر الأصفر هنا يترك التعليق على القصة، وللقارىء الحق في التفسير والتعبير، علماً بأن هذه القصة وغيرها ترد كمثال على خطورة quot;تعطر المرأةquot; راجع كتاب quot;تحفة العروسquot; للأستانبولي ص 320.
ولو عاد القلم إلى إيضاح الحديث- أعنى حديث المرأة المتعطرة- لوجد أن الشيخ المناوي شرح المعنى في كتابه quot;فيض القديرquot; قائلاً: (أي كأنها زانية في حصول الإثم، وإن تفاوتْ، لأن فاعل السبب كفاعل المسبب، وقال الطيبي: شبِّه خروجها من بيتها متطيبة، متهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنى مبالغة وتهديداً وتشديداً عليها)! وقد أخذ بعض المالكية من الحديث حرمة التلذذ بشم طيب أجنبية، لأن الله إذا حرّم شيئاً، زجرتْ الشريعة عمّا يضارعه مضارعة قريبة، وقد بالغ بعض السلف في ذلك حتى كان ابن عمر رضي الله عنهما ينهي عن القعود بمحل امرأة قامت عنه، حتى يبرد!
هذا ما لدى الحبر الأصفر- حين تكون رائحة البن جغرافيا، ورائحة الفستق تاريخ!
التعليقات