ساد الامتعاض والتحفظ بعض اوساط ابناء المقابر الجماعية بعد اطلاق رئيس الوزراء نوري المالكي مبادرته لـ(المصالحة) الوطنية والتي افضل تسميتها بـ(صلح المالكي). وسبب الامتعاض هو الاعتقاد ان هذه المبادرة (التصالحية) فيها الكثير من التنازل لصالح قوى الشر والارهاب من تكفيريين وصداميين. وقبل الوقوف عند مضامين (صلح المالكي) لابد من تفهم هذا الامتعاض والتحفظ لاسيما وانه صادر من العراقيين الاصلاء الذين اعطوا الغالي والنفيس وجادوا بكل ما يملكون بما في ذلك الارواح والانفس (والجود بالنفس اسمى غاية الجود) في منازلات عدة كان آخرها الانتخابات التشريعية التي اوصلت السيد المالكي ذاته الى مكانه الحالي والذي لايغبطه عليه منصف.
جمهور الممتعضين يرون ان كتلتهم لم تقدم لهم ما قدمته كتل الاخرين لناخبيها بل هناك من يرى في هذه المبادرة كسر لشوكة الائتلاف ورضوخ لمطاليب القوى الداعمة للارهاب تحت يافطة (المقاومة الشريفة والعفيفة) حيث جاءت اكثر مضامين المبادرة استجابة وتماشيا مع تلك المطاليب ولسان حال الممتعضين من هذه المبادرة يقول: هذا ما قدمه الاخرون لناخبيهم فماذا قدمتم لنا ايها الائتلافيون؟.
لكن تفهم الامتعاض لايعني تخطئة المبادرة والوقوف ضدها بدعوى ان في بعض فقراتها تنازل. الحقيقة التي يجب ان لانغفلها ان مثل هذا التنازل ان وجد لم يكن سببه المالكي بل هو تحصيل حاصل للسياسة الخاطئة لسلفه المُنحى التي ولدت فراغاً سياسياً اضطرت على أثره القوى السياسية التي تمثل ابناء المقابر الجماعية تقديم التنازل تلو الاخر بداية ً بتقليص سلطات منصب رئيس الوزراء وليس نهاية ً بالدعوة الى اعادة تأهيل البعثيين وذلك بالالتفاف على قانون اجتثاث البعث الضمانة الاساسية لعدم رجوع الفكر الطائفي والعنصري المقبور الى السلطة والى الحياة السياسية من جديد وعليه فالمالكي لايتحمل سبب هذا التنازل انما يتحمله من تسبب فيه.
يذكرني ( صلح المالكي) بصلح الحديبية والذي وقع في السنة السادسة للهجرة يوم قدم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنازلاً تكتيكيا ً لاجل الهدف الاستراتيجي الذي يؤمن به مما اثار حنق وغضب بعض الصحابة الذين صارحوا الرسول بما يدور في خلدهم يومها خاطبه بعضهم بلغة لاتخلوا من مزايدات. في ذلك الصلح لم يرض المشركون ان يوقع النبي محمد الاتفاقية بلقبه كـ(رسول الله) لعدم اعترافهم برسالته اصلا_كما هو عليه الحال الان مع الرافضين لحكومة المالكي الشرعية_ واشترطوا عليه ان يكتب ( باسمك اللهم هذا ما صلح محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين يأمن فيهم الناس ويكف بعضهم عن بعض...) وكذلك اشترطوا عليه امورا أخرى رأها بعض الصحابة تنازلا منه صلوات الله عليه وآله وسلامه ولكنه قبل الشروط بواقعية سياسية تليق به كقائد ذو عقلية استراتيجية وبعد نظر وتصالح مع المشركين لتظهر نتيجة هذه البراغماتية بعد عدة سنوات عندما جاء الرسول فاتحا ً لمكة بعد ان رفض المشركون في صلح الحديبية ان يدخلها في ذلك العام.
صلح المالكي يشبه ببعض حيثياته صلح الحديبية مع فارق بالقياس بين شخص الرسول الاعظم محمد وبين شخص المالكي الذي لانشك بإخلاصه للإسلام المحمدي النقي وعشقه له. التنازلات التي تضمنها صلح المالكي لمن يراها كذلك انما يمكن تفسيرها بالرجوع خطوة الى الوراء من اجل دفع العملية السياسية خطوات للامام لمصلحة العراق والعراقيين. كما لايفوتنا التنويه هنا ان المبادرة المالكية هي ركن من ثلاثة اركان تشكل مجتمعةً الاستراتيجية التي ينوي اتباعها في سبيل تحقيق الامن والاستقرار والانتعاش الاقتصادي وانجاح العملية الديمقراطية التي بدأت بعد تحرير العراق والركنان الاخران في استراتيجية المسارات الثلاثة التي تقوم عليها سياسة الوزارة المالكية هما اعادة تأهيل وتطوير البنى التحتية من خلال الاستثمار والبناء بالاعتماد على القوى العراقية العاملة وتطوير المناطق الامنة لكي تكون قدوة لبقية مناطق العراق. والركن الاخر هو توفير الامن من خلال بناء القوات العراقية ورفع مستوى جاهزيتها لتولي مهام حفظ الامن بعد انسحاب القوات الصديقة المحررة بالتزامن مع تفعيل القرار 91 والمتعلق بأنهاء تواجد المليشيات الغير دستوري.
ان من اهم القضايا التي يجب استحضارها عند الحكم على المضامين التي وردت في صلح المالكي انه جاء مقيداً بجملة شروط اهمها كما في بعض فقراته:
(الفقرة 3 - اعتماد الشرعية الدستورية والقانونية لحل مشاكل البلد. الفقرة 4- أن تتخذ القوى السياسية المشاركة في الحكومة موقفاً رافضاً وصريحاً من الإرهابيين والصداميين. الفقرة 20- توحيد الرؤى والمواقف اتجاه العناصر والمجموعات الإرهابية التكفيرية التي تعادي العراق والعراقيين. الفقرة 22- إن ما أفرزته الانتخابات من برلمان ودستور وحكومة وحدة وطنية تشكل جميع هذه المؤسسات الممثل الشرعي الوحيد لإرادة الشعب العراقي في التعامل مع موضوع السيادة وتواجد قوات متعددة الجنسيات) .
ومن يدقق النظر في هذه الفقرات التي جاءت متناثرة في ثنايا مبادرة الصلح يجد انها مجتمعة تشكل شروط لايمكن من دونها تحقيق ما يعرف بـ( المصالحة). وبكلمة اخرى ان التنازلات التي قدمتها المبادرة لم تكن بلا ثمن بل جاءت بثمن باهض سيتكلفه الارهاب. ولو قدر ونجحت المبادرة فأن ثمارها ستكون اضعاف ما قدم. وهناك من يعتقد ان هذه التنازلات طُعُم سياسي ستكون نتيجة التهامه سقوط ورقة التوت عن عورة قوى الشر والبغي الداعمة للارهاب. بينما هنالك من يُقيَّم مبادرة المالكي من الاساس على انها ضربة معلم من حيث توقيتها حيث الشعب قدم الكثير من التضحيات ولم يعد بإمكانه تقديم المزيد هذا من جهة, وحيث القوى الارهابية والبيئة الحاضنة لها تلقت الضربات الموجعة ولم يعد بإمكانها تلقي المزيد من جهة أخرى مما سيعطي الشعب الفرصة لتنفس الصعداء ويمنح اصحاب تلك البيئة فرصة مماثلة للتوبة والعودة الى جادة الصواب واعلان البراءة من الارهابيين وطردهم من مدنهم.
والسؤال كيف يكون ذلك ؟ فنقول ان قبول كافة القوى السياسية ومن ضمنها القوى المشاكسة والمتهمة بأنها في النهار مع الحكومة وفي الليل مع الارهاب بهذه المبادرة وبالشروط اعلاه معناه سحب الغطاء السياسي الذي وفرته هذه القوى للارهاب هذا اولاً. وحفر خندق بينها وبين القوى الارهابية ثانياً. وعزل القوى المتشنجة والرافضة للعملية السياسية برمتها ثالثاً. وتحديد هوية القوى الارهابية لان كل القوى تكون قد شاركت في العملية السياسية اما حاكمة او معارضة داخل البرلمان او خارجه بطريقة سلمية ولا يبقى سوى الارهاب يمارس العنف المسلح وانهاء اسطوانة (المقاومة الشريفة) المشروخة والتي لا تعدو كونها مقاومة اشباح عديمة اللون والطعم والرائحة اللهم الا من رائحة ولون دم العراقيين الابرياء مما سيسهل عملية فرز الارهاب والقضاء عليه رابعاً. وتكون المبادرة قد حققت ضمناً اعتراف الاغلبية الساحقة بالدستور كمرجعية عليا لايزال البعض يرفضها خامساً.
أخيرا تنبع اهمية هذا المبادرة من عراقيتها ومن مباركتها دوليا فنجاحها يعني بالنتيجة نجاح سياسية الائتلاف العراقي الموحد والذي يكون بذلك قد وفى ببعض التزاماته امام ناخبيه وهذا مكسب عظيم ولو بعد حين. انها اذا الحديبية في بغداد فهل سنرى (بيعة رضوان)من شركاء المالكي في الحكومة تعبيرا عن صدقهم وايمانهم بالمبادرة؟هذا ماستكشفه الايام القادمة (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).
التعليقات